البحر المحيط، ج ٦، ص : ١٣٩
إلى الملك القرن وابن الهمام وليث الكريهة في المزدحم
ولم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع فيكون مقابلة في لفظ الأعمى وضده، وفي لفظة الأصم وضده، لأنه تعالى لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع، وذلك هو الأسلوب في المقابلة، والأتم في الإعجاز. ويأتي إن شاء اللّه تعالى نظير هذه المقابلة في قوله في طه : إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى «١» واحتمل أن تكون الكاف نفسها هي خبر المبتدأ، فيكون معناها معنى المثل، فكأنه قيل : مثل الفريقين مثل الأعمى. واحتمل أن يراد بالمثل الصفة، وبالكاف مثل، فيكون على حذف مضاف أي : كمثل الأعمى، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس، فأعمى البصيرة أصمها، شبه بأعمى البصر أصم السمع، ذلك في ظلمات الضلالات متردد تائه، وهذا في الطرقات محير لا يهتدي إليها. وجاء أفلا تذكرون لينبه على أنه يمكن زوال هذا العمى وهذا الصمم المعقول، فيجب على العاقل أن يتذكر ما هو فيه، ويسعى في هداية نفسه. وانتصب مثلا على التمييز، قال ابن عطية :
ويجوز أن يكون حالا انتهى. وفيه بعد، والظاهر التمييز وأنه منقول من الفاعل أصله : هل يستوي مثلاهما.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ. فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ :
هذه السورة في قصصها شبيهة بسورة الأعراف بدىء فيها بنوح، ثم بهود، ثم بصالح، ثم بلوط، مقدّما عليه ابراهيم بسبب قوم لوط، ثم بشعيب، ثم بموسى وهارون، صلى اللّه على نبينا وعليهم أجمعين. وذكروا وجوه حكم وفوائد لتكرار هذه القصص في القرآن.
وقرأ النحويان وابن كثير : أني بفتح الهمزة أي : بأبي، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول. وقال أبو علي في قراءة الفتح : خروج من الغيبة إلى المخاطبة، قال ابن عطية : وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبة لقومه وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام أن أنذرهم أو نحوه لصح ذلك انتهى. وأن لا تعبدوا إلا اللّه ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرّحا في غير هذه السورة، وأن بدل من أي

(١) سورة طه : ٢٠/ ١١٨ - ١١٩.


الصفحة التالية
Icon