البحر المحيط، ج ٦، ص : ١٦٥
إن قدر أن من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط، وأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها فيمكن على بعد، والذي ينبغي أن يفهم من الآية أنّ من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون، ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من اللّه عليهم سلام وبركة، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الآخرة، وذلك من باب الكناية كقولهم : فلان طويل النجاد كثير الرماد. وظاهر قوله : ممن معك يدل على أنّ المؤمنين والكافرين نشأوا ممن معه، والذين كانوا معه في السفينة إن كانوا أولاده الثلاثة فقط، أو معهم نساؤهم، انتظم قول المفسرين أنّ نوحا عليه السلام هو أبو الخلق كلهم، وسمي آدم الأصغر لذلك. وإن كانوا أولاده وغيرهم على الاختلاف في العدد، فإن كان غير أولاده مات ولم ينسل صح أنه أبو البشر بعد آدم، ولم يصح أنه نشأ ممن معه مؤمن وكافر، إلا إن أريد بالذين معه أولاده، فيكون من إطلاق العام ويراد به الخاص. وإن كانوا نسلوا كما عليه أكثر المفسرين فلا ينتظم أنه أبو البشر بعد آدم بل الخلق بعد الطوفان منه، وممن كان معه في السفينة والأمم الممتعة ليسوا معينين، بل هم عبارة عن الكفار. وقيل : هم قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب، عليهم الصلاة والسلام.
تلك إشارة إلى قصة نوح، وتقدمت أعاريب في مثل هذا التركيب في قوله : ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ «١» في آل عمران، وتلك إشارة للبعيد، لأنّ بين هذه القصة والرسول مددا لا تحصى. وقيل : الإشارة بتلك إلى آيات القرآن، ومن أنباء الغيب وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند اللّه، ونوحيها إليك ليكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء، ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك، وأعلمناهم بها ليكون مثالا لهم وتحذيرا أن يصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك، وللحظ هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله :
فاصبر على أذاهم مجتهدا في التبليغ عن اللّه، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة.
ومعنى ما كنت تعلمها : أي مفصلة كما سردناها عليك، وعلم الطوفان كان معلوما عند العالم على سبيل الإجمال، والمجوس الآن ينكرونه. والجملة من قوله : ما كنت في موضع الحال من مفعول نوحيها، أو من مجرور إليك، وقدرها الزمخشري تقدير معنى فقال : أي مجهولة عندك وعند قومك، ويحتمل أن يكون خبرا بعد خبر، والإشارة بقوله : من قبل هذا إلى الوقت أو إلى الإيحاء أو إلى العلم الذي اكتسبه بالوحي احتمالات، وفي مصحف ابن