البحر المحيط، ج ٦، ص : ٣٧٤
كقوله : فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ «١» فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه، وليس في النار، لكن يصيبه لهبها. وقال مكي وغيره : في النار متعلق بمحذوف تقديره : كائنا، أو ثابتا. ومنعوا تعليقه بقوله : توقدون، لأنهم زعموا أنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى انتهى. ولو قلنا : إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، لجاز أن يكون متعلقا بتوقدون، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله : يطير بجناحيه، وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه. وقال الحوفي : هو مصدر في موضع الحال أي :
مبتغين حلية، وفي ذكر متعلق ابتغاء تنبيه على منفعة ما يوقدون عليه. والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة، والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني، والمساحي، وآلات الحرب، وقطاعات الأشجار، والسكك، وغير ذلك. وزبد مرفوع بالابتداء، وخبره في قوله : ومما توقدون. ومن الظاهر أنها للتبعيض، لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن. وأجاز الزمخشري أن تكون من لابتداء الغاية أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، والمماثلة في كونهما يتولدان من الأوساخ والأكدار، والحق والباطل على حذف مضاف أي : مثل الحق والباطل. شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها، وشبه الباطل بالزبد والمجتمع من الخبث والأقذار، ولا بقاء له ولا قيمة. وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد، فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله : زبدا رابيا، وفي قوله : زبد مثله، ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر، وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخرا كقوله : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «٢» والبداءة بالسابق فصيحة مثل قوله : فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «٣» فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ «٤» وكأنه - واللّه أعلم - يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر. وانتصب جفاء على الحال أي : مضمحلا متلاشيا لا منفعة فيه ولا بقاء له. والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث المعادن، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية، فهما واحد باعتبار القدر المشترك. وقرأ رؤبة : جفالا باللام بدل الهمزة من
(٢) سورة آل عمران : ٣/ ١٠٦. [.....]
(٣) سورة هود : ١١/ ١٠٥.
(٤) سورة هود : ١١/ ١٠٦.