البحر المحيط، ج ٦، ص : ٤٤٦
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ : كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهارا للتذلل، والالتجاء إلى اللّه تعالى. وأتى بضمير جماعة المتكلمين، لأنه تقدم ذكره. وذكر بنيه في قوله : واجنبني وبنيّ، ومن ذريتي هو إسماعيل ومن ولد منه. وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة،
فروى أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل، فجاء في يوم واحد من الشام إلى مكة، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك، وركب منصرفا من يومه ذلك
وكان هذا كله بوحي من اللّه تعالى، فلما ولي دعا بما في ضمن هذه الآية. وأما كيفية بقاء هاجر وما جرى لها ولاسماعيل هناك ففي كتاب البخاري والسير وغيره. ومن للتبعيض، لأنّ إسحاق كان في الشام، والوادي ما بين الجبلين، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء، وإنما قال : غير ذي زرع، لأنه كان علم أن اللّه لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقها الماء، وإنما نظر النظر البعيد فقال : غير ذي زرع، ولو لم يعلم ذلك من اللّه تعالى لقال : غير ذي ماء، على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك.
قال ابن عطية : وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث وجد الماء، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء.
وقال الزمخشري : بواد هو وادي مكة، غير ذي زرع : لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله :
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ «١» بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى. واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولا لقوله : لا يكون، وليس هو ماضيا، وهو مكان أبدا الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات. والظاهر أن قوله : عند بيتك المحرم، يقتضي وجود البيت حالة الدعاء، وسبقه قبله وتقدم الكلام في البيت ومتى وضع في البقرة، وفي آل عمران. ووصف بالمحرم لكونه حرم على الطوفان أي : منع منه، كما سمي بعتيق لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لكونه لم يزل عزيزا ممنعا من الجبابرة، أو لكونه محترما لا يحل انتهاكه. وليقيموا متعلق بأسكنت. وربنا دعاء معترض، والمعنى : إنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة. وقيل : هي لام الأمر، دعا لهم بإقامة الصلاة. وقال أبو الفرج بن الجوزي : اللام متعلقة بقوله : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ليقيموا الصلاة انتهى. وهذا بعيد جدا. وخصّ الصلاة دون سائر العبادات لأنها أفضلها، أو لأنها سبب لكل خير. وقوله : ليقيموا بضمير الجمع دلالة على أن اللّه أعلمه بأن

(١) سورة الزمر : ٣٩/ ٢٨.


الصفحة التالية
Icon