البحر المحيط، ج ٦، ص : ٥٠٥
التقدير وهو يقول لهم : أعلموا. وقرىء : لينذروا أنه، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان المنذرون كافرين بألوهيته، ففي ضمن أمرهم مكان خوف، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه، ووعيد وتحذير من عبادة الأوثان. ومعنى : فاتقون أي اتقوا عقابي باتخاذكم إلها غيري. وجاءت الحكاية على المعنى في قوله : إلا أنا، ولو جاءت على اللفظ لكان لا إله إلا اللّه، وكلاهما سائغ.
وحكاية المعنى هنا أبلغ إذ فيها نسبة الحكم إلى ضمير المتكلم المنزل الملائكة، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض، وهم مقرون بأنه تعالى هو خالقها. وبالحق أي : بالواجب اللائق، وذلك أنها تدل على صفات تحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، بخلاف شركائهم التي لا يحق لها شيء من ذلك.
وقرأ الأعمش : فتعالى بزيادة فاء، وجاءت هذه الجملة منبهة على تنزيه اللّه تعالى موجد هذا العالم العلوي والعالم السفلي عن أن يتخذ معه شريك في العبادة. ولما ذكر ما دل على وحدانيته من خلق العالم العلوي والأرض، وهو استدلال بالخارج، ذكر الاستدلال من نفس الإنسان، فذكر إنشاءه من نطفة فإذا هو خصيم مبين، وكان حقه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر اللّه. والخصيم من صفات المبالغة من خصم بمعنى اختصم، أو بمعنى مخاصم، كالخليط والجليس، والمبين الظاهر الخصومة أو المظهرها. والظاهر أنّ سياق هذين الوصفين سياق ذم لما تقدم من قوله : سبحانه وتعالى عما يشركون، وقوله : أن أنذروا الآية. ولتكرير تعالى عما يشركون، ولقوله في يس : أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ «١» الآية وقال :
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ «٢» وعنى به مخاصمتهم لأنبياء اللّه وأوليائه بالحجج الداحضة، وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم، أو مردفا بالذم.
وقيل : المراد بالإنسان هنا أبي بن خلف الجمحي. وقال قوم : سياق الوصفين سياق المدح، لأنه تعالى قواه على منازعة الخصوم، وجعله مبين الحق من الباطل، ونقله من تلك الحالة الجمادية وهو كونه نطفة إلى الحالة العالية الشريفة وهي : حالة النطق والإبانة.
وإذ هنا للمفاجأة، وبعد خلقه من النطفة لم تقع المفاجأة بالمخاطبة إلا بعد أحوال تطور فيها، فتلك الأحوال محذوفة، وتقع المفاجأة بعدها. وقال أبو عبد اللّه الرازي : اعلم أنّ
(٢) سورة الزخرف : ٤٣/ ٥٨.