البحر المحيط، ج ٦، ص : ٥٥٦
تبيين للعبرة. وقال الزمخشري : وهو استئناف كأنه قيل : كيف العبرة؟ فقيل : نسقيكم من بين فرث ودم، أي : يخلق اللّه اللبن وسطا بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة اللّه لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله انتهى.
قال ابن عباس : إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا يبقى فيه، وأعلاه دما يجري في العروق، وأوسطه لبنا يجري في الضرع. وقال ابن جبير : الفرث في أوسط المصارين، والدم في أعلاها، واللبن بينهما، والكبد يقسم الفرث إلى الكرش، والدم إلى العروق، واللبن إلى الضروع.
وقال أبو عبد اللّه الرازي : قال المفسرون : المراد من قوله من بين فرث ودم، هو أنّ هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد، فالفرث يكون في أسفل الكرش، والدم في أعلاه، واللبن في الوسط، وقد دللنا على أنّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة، وكان الرازي قد قدم أن الحيوان يذبح ولا يرى في كرشه دم ولا لبن، بل الحق أنّ الغذاء إذا تناوله الحيوان وصل إلى الكرش وانطبخ وحصل الهضم الأول فيه، فما كان منه كثيفا نزل إلى الأمعاء، وصافيا انحدر إلى الكبد فينطبخ فيها ويصير دما، وهو الهضم الثاني مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فتذهب الصفراء إلى المرارة، والسوداء إلى الطحال، والماء إلى الكلية، وخالص الدم يذهب إلى الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد فيحصل الهضم الثالث. وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة ينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، وهو لحم رخو أبيض فينقلب من صورة الدم إلى صورة اللبن، فهذا هو الصحيح في كيفية توالد اللبن انتهى ملخصا. وقال أيضا : وأما نحن فنقول : المراد من الآية هو أنّ اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهي الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش. فاللبن متولد مما كان حاصلا فيما بين الفرث أولا، ثم مما كان حاصلا فيما بين الدم ثانيا انتهى، ملخصا أيضا.
والذي يظهر من لفظ الآية أنّ اللبن يكون وسطا بين الفرث والدم، والبينية يحتمل أن تكون باعتبار المكانية حقيقة كما قاله المفسرون وادعى الرازي أنه على خلاف الحس والمشاهدة. ويحتمل أن تكون البينية مجازية، باعتبار تولده من ما حصل في الفرث أولا، وتولده من الدم الناشئ من لطيف ما كان في الفرث ثانيا كما قرره الرازي. ومن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم، والثانية لابتداء الغاية متعلقة بنسقيكم، وجاز تعلقهما بعامل