البحر المحيط، ج ٦، ص : ٥٥٨
لك أي طعم، واختاره الطبري قال : والسكر في كلام العرب ما يطعم. وأنشد أبو عبيدة :
جعلت أعراض الكرام سكرا أي : تنقلت بأعراضهم. وقيل : هو من الخمر، وأنه إذا ابترك في أعراض الناس فكأنه تخمر بها، قاله الزمخشري، وتبع الزجاج قال : يصف أنه يخمر بعيوب الناس، وعلى هذه الأقوال لا نسخ. وقال الزجاج : قول أبي عبيدة لا يصح، وأهل التفسير على خلافه. وقيل : السكر ما لا يسكر من الأنبذة، وقيل : السكر النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر انتهى. وإذا أريد بالسكر الخمر فقد تقدم أنّ ذلك منسوخ، وإذا لم نقل بنسخ فقيل : جمع بين العتاب والمنة. يعني بالعتاب على اتخاذ ما يحرم، وبالمنة على اتخاذ ما يحل، وهو الخل والرب والزبيب والتمر. وقال الزمخشري : ويجوز أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن انتهى. فيكون من عطف الصفات، وظاهر العطف المغايرة.
ولما كان مفتتح الكلام : وأن لكم في الأنعام لعبرة، ناسب الختم بقوله : يعقلون، لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول كما قال : إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الألباب «١».
وانظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس، أخبر عن نفسه تعالى بقوله : نسقيكم. ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال : تتخذون، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق، ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته. ولما ذكر تعالى المنة بالمشروب اللبن وغيره، أتم النعمة بذكر العسل النحل. ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل، قدم اللبن وغيره عليه، وقدم اللبن على ما بعده لأنه المحتاج إليه كثيرا وهو الدليل على الفطرة. ولذلك اختاره الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم حين أسري به، وعرض عليه اللبن والخمر والعسل، وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية قال تعالى : وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى «٢» ففي إخراج اللبن من النعم والسكر، والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، والعسل من النحل، دلائل باهرة على الألوهية والقدرة والاختيار. والإيحاء هنا الإلهام والإلقاء في روعها، وتعليمها على وجه هو تعالى أعلم بكنهه لا سبيل إلى الوقوف عليه. والنحل : جنس واحده

(١) سورة آل عمران : ٣/ ١٣ وفي لفظها لأولي الأبصار.
(٢) سورة محمد : ٤٧/ ١٥.


الصفحة التالية
Icon