البحر المحيط، ج ٦، ص : ٥٩
القرآن. وقال صاحب اللوامح : هذا مما حذف الموصوف منه وأقيمت الصفة مقامه أي :
بصورة بشر مثله، فالهاء في ذلك واقعة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وفي العامة إلى القرآن. وادعوا من استطعتم أن تدعوه من خلق اللّه إلى الاستعانة على الإتيان بمثله من دون اللّه أي : من غير اللّه، لأنه لا يقدر على أن يأتي بمثله أحد إلا اللّه، فلا تستعينوه وحده، واستعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين في أنه افتراه. وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن قالوا :
لأنه تحدّى به وطلب الإتيان بمثله وعجزوا، ولا يمكن هذا إلا إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان قديما لكان الإتيان بمثل القديم محالا في نفس الأمر، فوجب أن لا يصح التحدي به. وقال أبو عبد اللّه الرازي : مراتب التحدي بالقرآن ست تحدّ بكل القرآن في : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ «١» الآية، وتحد بعشر سور، وتحدّ بسورة واحدة، وتحد بحديث مثله في قوله : فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ «٢» وفي هذه الأربع طلب أن يعارض رجل يساوي الرسول في عدم التتلمذ والتعليم، وتحد طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان كان تعلم العلوم أو لم يتعلمها، وفي هذه المراتب الخمس تحدى كل واحد من الخلق، وتحد طلب من المجموع واستعانة بعض ببعض انتهى ملخصا.
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ : قال الزمخشري : بل كذبوا، بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويفقهوا تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم. وقال ابن عطية : هذا اللفظ يحتمل معنيين : أحدهما : أن يريد بما الوعيد الذي توعدهم اللّه على الكفر، وتأويله على هذا يريد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ «٣» والآية محملها على هذا التأويل يتضمن وعيدا، والمعنى الثاني : أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبئ بالغيوب الذي لم يتقدّم لهم به معرفة، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه. وقال أبو عبد اللّه الرازي : يحتمل وجوها، الأول : كلما سمعوا شيئا من القصص قالوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «٤» ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس نفس الحكاية، بل قدرته تعالى على التصرف في هذا العالم، ونقله
(٢) سورة الطور : ٥٢/ ٣٤. [.....]
(٣) سورة الأعراف : ٧/ ٥٣.
(٤) سورة الأنفال : ٨/ ٣١ - النحل : ١٦/ ٢٤، الفرقان : ٢٥/ ٥ - القلم : ٦٨/ ١٥ - المطففين : ٨٣/ ١٣.