البحر المحيط، ج ٨، ص : ١٦٨
ملة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. قال مكي : وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت الدعوة في محمد عليه السلام، وهذا معنى حسن، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. انتهى. ولما طلب سعادة الدنيا، طلب سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث، لأنه الذي يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة، وقال تعالى : تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا «١».
ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرة لنفسه، طلب لأشد الناس التصاقا به، وهو أصله الذي كان ناشئا عنه، وهو أبوه، فقال : وَاغْفِرْ لِأَبِي، وطلبه المغفرة مشروط بالإسلام، وطلب المشروط يتضمن طلب الشرط، فحاصله أنه دعا بالإسلام. وكان وعده ذلك يوضحه قوله : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ «٢»، أي الموافاة على الكفر تبرأ منه. وقيل : كان قال له إنه على دينه باطنا وعلى دين نمروذ ظاهرا، تقية وخوفا، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، ولذلك قال في دعائه : وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ. فلو لا اعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك. وَلا تُخْزِنِي : إما من الخزي، وهو الهوان، وإما من الخزاية، وهي الحياء. والضمير في يُبْعَثُونَ ضمير العباد، لأنه معلوم، أو ضمير الضَّالِّينَ، ويكون من جملة الاستغفار، لأنه يكون المعنى : يوم يبعث الضالون. وأتى فيهم : يَوْمَ لا يَنْفَعُ بدل من : يَوْمَ يُبْعَثُونَ. مالٌ وَلا بَنُونَ : أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه. وقيل : المراد بالبنين جميع الأعوان. وقيل : المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها، فقصد من ذلك الذكر العظيم والأكثر، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا. والظاهر أن الاستثناء منقطع، أي لكن من أتى اللّه بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه. قال الزمخشري : ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف، وهو الحال المراد بها السلامة، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى. انتهى.
ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف، كما ذكر، إذ قدرناه، لكن مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ينفعه ذلك، وقد جعله الزمخشري في أول توجيهه متصلا بتأويل قال : إلا من أتى اللّه : إلا حال من أتى اللّه بقلب سليم، وهو من قوله :
(٢) سورة التوبة : ٩/ ١١٤.