البحر المحيط، ج ٨، ص : ٢٦٣
لمشاهدتهم عيانا في الآخرة ما وعدوا به غيبا في الدنيا، وكونه بمعنى المضي، ومعناه الاستقبال، لأن الإخبار به صدق، فكأنه قد وقع. وقال ابن عطية : يحتمل معنيين :
أحدهما : أنه تناهى علمهم، كما تقول : أدرك النبات وغيره، أي تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقدارا فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتا، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم، وقد تعدّى العلم بالباء، كما تقول : علمي بزيد كذا، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى التوقيف والاستفهام، وجاء إنكارا لأنهم لم يدركوا شيئا نافعا. والثاني : أن أدرك : بمعنى يدرك، أي علمهم في الآخرة يدرك وقت القيامة، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها، وأما في الدنيا فلا. وهذا تأويل ابن عباس، ونحا إليه الزجاج، وفي على بابها من الظرفية متعلقة بتدارك. انتهى، وفيه بعض تلخيص وزيادة. وقال الزمخشري : هو على وجهين : أحدهما : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون، وذلك قوله : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ، يريد المشركين ممن في السموات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال :
بنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله ناس منهم. والوجه الثاني : أن وصفهم باستحكامه وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك، على سبيل الهزء به، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك، فضلا عن أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته. وفي أدرك علمهم وادارك وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني، من قولهم : أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك. انتهى.
وقال الكرماني : العلم هنا بمعنى الحكم والقول، أي تتابع منهم القول والحكم في الآخرة، وكثر منهم الخوض فيها، فنفاها بعضهم، وشك فيها بعضهم، واستبعدها بعضهم. وقال الفراء : بل أدرك، فيصير بمعنى الجحد، ولذلك نظائر أي لم يعلموا حدوثها وكونها، ودل على ذلك بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها، فصارت في في الكلام بمعنى الباء، أي لم يدرك علمهم بالآخرة. قال الفراء : ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ : أدرك، بالاستفهام. انتهى. وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل، فقال أبو حاتم : إن كان بلى جوابا لكلام تقدم، جاز أن يستفهم به، كأن قوما أنكروا ما تقدم من القدرة، فقيل لهم : بلى إيجابا لما نفوا، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى : بَلْ هُمْ فِي