البحر المحيط، ج ٨، ص : ٢٦٧
عند اللّه ومكنون علمه. وقيل : ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض. وقيل : هو يوم القيامة وأهوالها، قاله الحسن. والكتاب : اللوح المحفوظ. وقيل : أعمال العباد أثبتت ليجازى عليها. وقال صاحب الغنيان : أي حادثة غائبة، أو نازلة واقعة. وقال ابن عباس :
أي ما من شيء سرّ في السموات والأرض وعلانية، فاكتفى بذكر السر عن مقابله. وقال الزمخشري : سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العاقبة والعافية، ونظيرهما : النطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالرواية في قولهم : ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء، إلا وقد علمه اللّه وأحاط به وأثبته في اللوح المبين الظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة. انتهى.
ولما ذكر تعالى المبدأ والمعاد، ذكر ما يتعلق بالنبوة، وكان المعتمد الكبير في إثبات نبوّة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم هو القرآن. ومن جملة إعجازه إخباره بما تضمن من القصص، الموافق لما في التوراة والإنجيل، مع العلم بأنه أمي لم يخالط العلماء ولا اشتغل بالتعليم. وبنو إسرائيل هم اليهود والنصارى. قص فيه أكثر ما اختلفوا فيه على وجهه، وبينه لهم، ولو أنصفوا وأسلموا. ومما اختلفوا فيه أمر المسيح، تحزبوا فيه، فمن قائل هو اللّه، ومن قائل ابن اللّه، ومن قائل ثالث ثلاثة، ومن قائل هو نبي كغيره من الأنبياء، وقد عقدوا لهم اجتماعات، وتباينوا في العقائد، وتناكروا في أشياء حتى لعن بعضهم بعضا، والظاهر عموم المؤمنين. وقيل لمن آمن من بني إسرائيل والقضاء والحكم، وإن ظهر أنهما مترادفان، فقيل : المراد به هنا العدل، أي بعدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، وقيل : المراد بحكمته والحكم. قيل : ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه، بكسر الحاء وفتح الكاف، جمع حكمة، وهو جناح بن حبيش. ولما كان القضاء يقتضي تنفيذ ما يقضي به، والعلم بما يحكم به، جاءت هاتان الصفتان عقبه، وهو العزة : أي الغلبة والقدرة والعلم، ثم أمره تعالى بالتوكل عليه، وأخبره أنه على الحق الواضح الذي لا شك فيه، وهو كالتعليل للتوكل، وفيه دليل على أن من كان على الحق يحق له أن يثق باللّه، فإنه ينصره ولا يخذله.
ولما كان القرآن وما قص اللّه فيه لا يكاد يجدي عندهم، أخبر تعالى عنهم أنهم موتى القلوب، أو شبهوا بالموتى، وإن كانوا أحياء صحاح الأبصار، لأنهم إذا تلي عليهم لا تعيه آذانهم، فكانت حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى. وقرأ الجمهور : وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ هنا، وفي الروم بضم التاء وكسر الميم، الصم بالرفع، ولما كان الميت لا يمكن


الصفحة التالية
Icon