البحر المحيط، ج ٨، ص : ٣١١
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف استقام هذا المعنى، وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت : القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة، لما كانت هي السبب للقول، فكان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها لو لا، وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤول معناها إلى قولك : ولو لا قولهم هذا، إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ «١» لما أرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة، وهو أنهم لم يعاقبوا مثلا على كفرهم، وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين. لم يقولو : لو لا أرسلت إلينا رسولا، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير، لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم. وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخهم فيه ما لا يخفى، كقولهم : وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «٢». انتهى.
الْحَقُّ : هو الرسول، محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، جاء بالكتاب المعجز الذي قطع معاذيرهم.
وقيل : القرآن، مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى. مِنْ قَبْلُ : أي من قبل الكتاب المنزل جملة واحدة، وانقلاب العصا حية، وفلق البحر، وغيرها من الآيات. اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والعناد، كما قالوا : لو لا أنزل عليه كنز، وما أشبه ذلك من المقترحات لهم. وهذه المقالة التي قالوها هي من تعليم اليهود لقريش، قالوا لهم. ألا يأتي بآية باهرة كآيات موسى، فرد اللّه عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، وقد وقع منهم في آيات موسى ما وقع من هؤلاء في آيات الرسول. فالضمير في : أَوَلَمْ يَكْفُرُوا لليهود، قاله ابن عطية. وقيل :
قائل ذلك العرب بالتعليم، كما قلنا. وقيل : قائل ذلك اليهود، ويظهر عندي أنه عائد على قريش الذين قالوا : لَوْ لا أُوتِيَ : أي محمد، بِما أُوتِيَ مُوسى، وذلك أن تكذبيهم لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم تكذيب لموسى عليه السلام، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى، إذ الأنبياء هم من واد واحد. فمن نسب إلى أحد من الأنبياء ما لا يليق، كان ناسبا ذلك إلى جميع الأنبياء. وتتناسق الضمائر كلها في هذا، في قوله : قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وإن كان الظاهر من القول إنه النطق اللساني، فقد ينطلق على الاعتقاد وهم من حيث إنكار النبوات، معتقدون أن ما ظهر على أيدي الأنبياء من الآيات إنما هو من باب السحر.
وقال الزمخشري : أَوَلَمْ يَكْفُرُوا، يعني آباء جنسهم، ومن مذهبهم مذهبهم، وعنادهم عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى بِما أُوتِيَ مُوسى. وعن الحسن : قد كان
(٢) سورة الأنعام : ٦/ ٢٨.