البحر المحيط، ج ٨، ص : ٣٥٩
وكان جهلة قريش يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة، فتبرزها وتصورها للفهم، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد.
والإشارة بقوله : وَتِلْكَ الْأَمْثالُ إلى هذا المثل، وما تقدم من الأمثال في السور. وعن جابر، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، تلا هذه الآية فقال :«العالم من عقل عن اللّه فعمل بطاعته واجتنب سخطه».
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ : فيه تنبيه على صغر قدر الأوثان التي عبدوها. ومعنى بِالْحَقِّ : بالواجب الثابت، لا بالعبث واللعب، إذ جعلها مساكن عباده، وعبرة ودلائل على عظيم قدرته وباهر حكمته. والظاهر أن الصلاة هي المعهودة، والمعنى : من شأنها أنها إذا أدّيت على ما يجب من فروضها وسننها والخشوع فيها، والتدبر لما يتلو فيها، وتقدير المثول بين يدي اللّه تعالى، أن تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ. وقال ابن عباس، والكلبي، وابن جريج، وحماد بن أبي سليمان : تنهى ما دام المصلي فيها. وقال ابن عمر :
الصلاة هنا القرآن. وقال ابن بحر : الصلاة : الدعاء، أي أقم الدعاء إلى أمر اللّه، وأما من تراه من المصلين يتعاطى المعاصي، فإن صلاته تلك ليست بالوصف الذي تقدم.
وفي الحديث أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ارتكبه، فقيل ذلك للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال :«إن صلاتها تنهاه». فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«ألم أقل لكم؟»
ولا يدل اللفظ على أن كل صلاة تنهى، بل المعنى، أنه يوجد ذلك فيها، ولا يكون على العموم. كما تقول : فلان يأمر بالمعروف، أي من شأنه ذلك، ولا يلزم منه أن كل معروف يأمر به. والظاهر أن أَكْبَرُ أفعل تفضيل. فقال عبد اللّه، وسلمان، وأبو الدرداء، وابن عباس، وأبو قرة : معناه ولذكر اللّه إياكم أكبر من ذكركم إياه. وقال قتادة، وابن زيد : أكبر من كل شيء وقيل :
ولذكر اللّه في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة، أي أكبر ثوابا وقيل : أكبر من سائر أركان الصلاة وقيل : ولذكر اللّه نهيه أكبر من نهي الصلاة وقيل : أكبر من كل العبادة. وقال ابن عطية : وعندي أن المعنى : ولذكر اللّه أكبر على الإطلاق، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، والجزء الذي منه في الصلاة ينهى، كما ينهى في غير الصلاة، لأن الانتهاء لا يكون إلّا من ذاكر اللّه مراقبه، وثواب ذلك الذاكر أن يذكره اللّه في ملأ خير من ملائه، والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في النهي، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب


الصفحة التالية
Icon