البحر المحيط، ج ٨، ص : ٣٩٨
والشمال والصبا، وأما الدبور، فريح العذاب، وليس تبشيرها مقتصرا به على المطر، بل لها تبشيرات بسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها، وكأنه بدأ أولا بشيء عام، وهو التبشير. وقرأ الأعمش : الريح، مفردا، وأراد معنى الجمع، ولذلك قرأ : مُبَشِّراتٍ. ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة، وهي نزول المطر، ويتبعه حصول الخصب، والريح الذي معه الهبوب، وإزالة العفونة من الهواء، وتذرية الحبوب، وغير ذلك. وَلِيُذِيقَكُمْ :
عطف على معنى مُبَشِّراتٍ، فالعامل أن يُرْسِلَ، ويكون عطفا على التوهم، كأنه قيل :
ليبشروكم، والحال والصفة قد يجيئان، وفيهما معنى التعليل. تقول : أهن زيد أسيأ وأكرم زيدا العالم، تريد لإساءته ولعلمه. وقيل : ما يتعلق به اللام محذوف، أي ولكنا أرسلناها.
وقيل : الواو في وليذيقكم زائدة. وبِأَمْرِهِ : أي بأمر اللّه، يعني أن جريانها، لما كان مسندا إليها، أخبر أنه بأمره تعالى. مِنْ فَضْلِهِ : مما يهيء لكم من الريح في التجارات في البحر، ومن غنائم أهل الشرك. ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء، ولما كان تعالى بين الأصلين : المبدأ والمعاد، بين ذكر الأصل الثالث، وهو النبوّة وفي الكلام حذف تقديره : وآمن به بعض وكذب بعض، انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
وفي قوله : كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
: تبشير للرسول وأمته بالنصر والظفر، إذ أخبر أن المؤمنين بأولئك المؤمنين نصروا، وفي لفظ حقا مبالغة في التحتم، وتكريم للمؤمنين، وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان، حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر. والظاهر أن قًّا
خبر كان، وصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
الاسم، وأخر لكون ما تعلق به فاصلة للاهتمام بالجزاء، إذ هو محط الفائدة. وقال ابن عطية : وقف بعض القراء على حقا وجعله من الكلام المتقدم، ثم استأنف جملة من قوله : لَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
وهذا قول ضعيف، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية. وقال الزمخشري : وقد يوقف على قًّا
، ومعناه : وكان الانتقام منهم حقا، ثم يبتدأ عليناصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
، انتهى. وفي الوقف على كانَ حَقًّا
بيان أنه لم يكن الانتقام ظلما، بل عدلا، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلّا زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر، فكان عدمهم خيرا من وجودهم الخبيث.
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، هذا متعلق بقوله : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، والجملة التي بينهما اعتراض، جاءت تأنيسا للرسول وتسلية ووعدا بالنصر ووعيدا لأهل الكفر، وفي إرسالها قدرة وحكمة. أما القدرة، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه