البحر المحيط، ج ٩، ص : ١٩٥
عن ابن عباس، أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول اللّه، حدثنا بأحاديث حسان، وبأخبار الدهر، فنزل : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ.
وعن ابن مسعود، أن الصحابة ملأوا مكة، فقالوا له : حدثنا، فنزلت.
والابتداء باسم اللّه، وإسناد نزل لضميره مبنيا عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه، كما تقول : الملك أكرم فلانا، هو أفخم من : أكرم الملك فلانا.
وحكمة ذلك البداءة بالأشرف من تذكر ما تسند إليه، وهو كثير في القرآن، كقوله : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «١»، وكِتاباً بدل من أَحْسَنَ الْحَدِيثِ. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون حالا.
انتهى. وكان بناء على أن أَحْسَنَ الْحَدِيثِ معرفة لإضافته إلى معرفة. وأفعل التفضيل، إذا أضيف إلى معرفة، فيه خلاف. فقيل : إضافته محضة، وقيل : غير محضة. ومُتَشابِهاً : مطلق في مشابهة بعضه بعضا. فمعانيه متشابهة، لا تناقض فيها ولا تعارض، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب، بحيث أعجزت الفصحاء والبلغاء. وقرأ الجمهور : مَثانِيَ، بفتح الياء وهشام، وابن عامر، وأبو بشر : بسكون الياء، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف، واحتمل أن يكون منصوبا، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها. ومثاني يظهر أنه جمع مثنى، ومعناه : موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد. وقيل : يثنى في الصلاة بمعنى : التكرير والإعادة. انتهى. ووصف المفرد بالجمع، لأن فيه تفاصيل، وتفاصيل الشيء جملته. ألا ترى أنك تقول : القرآن سور وآيات؟ فكذلك تقول : أحكام ومواعظ مكررات، وأصله كتابا متشابها فصولا مثاني، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه. وأجاز الزمخشري أن يكون من باب برمة أعشار وثوب أخلاق، وأن يكون تمييزا عن متشابها، فيكون منقولا من الفاعل، أي متشابها مثانيه. كما تقول : رأيت رجلا حسنا شمائل، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة. والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة، إذ هو موجود عند الخشية، محسوس يدركه الإنسان من نفسه، وهو حاصل من التأثر القلبي. وقيل : هو تمثيل تصوير لإفراط خشيتهم، والمعنى : أنه حين يسمعونه يتلي ما فيه من آيات الوعيد، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم.

(١) سورة الحج : ٢٢/ ٧٥.


الصفحة التالية
Icon