البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٣٨
الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟ قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمالهم الخير بقوله : ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «١»، فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى، وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين، ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب. ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا، وأنه منزه عن صفات الإجرام.
وقد روعي التناسب في قوله : وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، كأنه قيل :
ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم، وفيه تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة، وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماء وأرض قط ثم لما جاء جامع الإيمان، جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض، قال تعالى : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ «٢». انتهى، وهو كلام حسن. إلا أن قوله : إن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير فيه نظر، وقوله : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا تخصيص لعموم قوله : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. وقال مطرف بن الشخير : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة، وأغش العباد للعباد الشياطين، وتلا هذه الآية. انتهى. وينبغي أن يقال : أنصح العباد للعباد الأنبياء والملائكة. رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً : أي يقولون : ربنا واحتمل هذا المحذوف بيانا ليستغفرون، فيكون في محل رفع، وأن يكون حالا، فيكون في موضع نصب. وكثيرا ما جاء النداء بلفظ ربنا ورب، وفيه استعطاف العبد لمولاه الذي رباه وقام بمصالحه من لدن نشأته إلى وقت ندائه، فهو جدير بأن لا يناديه إلا بلفظ الرب. وانتصب رحمة وعلما على التمييز، والأصل : وسعت رحمتك كل شيء، وعلمك كل شيء وأسند الوسع إلى صاحبها مبالغة، كأن ذاته هي الرحمة والعلم، وقد وسع كل شيء. وقدم الرحمة، لأنهم بها يستمطرون إحسانه ويتوسلون بها إلى حصول مطلوبهم من سؤال المغفرة.

(١) سورة البلد : ٩٠/ ١٧.
(٢) سورة الشورى : ٤٢/ ٥.


الصفحة التالية
Icon