البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٥٢
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ : أي لأن يقول رَبِّيَ اللَّهُ، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت لهم، كأنه قال :
أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها، وهي قوله : رَبِّيَ اللَّهُ، مع أنه قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ : أي من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده؟ وهذا استدراج إلى الاعتراف. وقال الزمخشري : ولك أن تقدر مضافا محذوفا، أي وقت أن يقول، والمعنى : أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره؟ انتهى. وهذا الذي أجازه من تقدير المضاف المحذوف الذي هو وقت لا يجوز، تقول : جئت صياح الديك، أي وقت صياح الديك، ولا أجيء أن يصيح الديك، نص على ذلك النحاة، فشرط ذلك أن يكون المصدر مصرحا به لا مقدرا، وأن يقول ليس مصدرا مصرحا به. بِالْبَيِّناتِ : بالدلائل على التوحيد، وهي التي ذكرها في طه والشعراء حالة محاورته له في سؤاله عن ربه تعالى.
ولما صرح بالإنكار عليهم، غالطهم بعد في أن قسم أمره إلى كذب وصدق، وأدّى ذلك في صورة احتمال ونصيحة، وبدأ في التقسيم بقوله : وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، مداراة منه وسالكا طريق الإنصاف في القول، وخوفا إذا أنكر عليهم قتله أنه ممن يعاضده ويناصره، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتى يسلم من شره، ويكون ذلك أدنى لتسليمهم. ومعنى فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ : أي لا يتخطاه ضرره. وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، وهو يعتقد أنه نبي صادق قطعا، لكنه أتى بلفظ بعض لإلزام الحجة بأسرها في الأمر، وليس فيه نفي أن يصيبهم كل ما يعدهم. وقالت فرقة : يصبكم بعض العذاب الذي يذكر، وذلك كان في هلاكهم، ويكون المعنى : يصبكم القسم الواحد مما يعد به، وذلك هو بعض مما يعد، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعمة، وإن كفروا بالنقمة. وقالت فرقة : بعض الذي يعدكم عذاب الدنيا، لأنه بعض عذاب الآخرة، ويصيرون بعد ذلك إلى النار. وقال أبو عبيدة وغيره : بعض بمعنى كل، وأنشدوا قول عمرو بن شسيم القطامي :
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقال الزمخشري : وذلك أنه حين فرض صادقا، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه وافيا فضلا أن يتعصب له. فإن قلت : وعن أبي عبيدة أنه قسم البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد وهو :