البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٨٩
ذلك سخونة، فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فبقي على وجه الماء، فخلق اللّه منه اليبوسة وأحدث منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعاد فخلق اللّه منه السموات. وفيه أيضا أنه خلق السماء من أجزاء مظلمة. انتهى. وروي أنها كانت جسما رخوا كالدخان أو البخار. قال ابن عطية : هنا لفظ متروك يدل عليه الظاهر، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمورها، وحينئذ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا. انتهى، فجعل ابن عطية هذه المحاورة بين الباري تعالى والأرض والسماء بعد خلق الأرض والسماء، ورجح قول من ذهب إلى أنهما نطقتا نطقا حقيقيا، وجعل اللّه لهما حياة وإدراكا يقتضي نطقهما، بعد أن ذكر أن المفسرين منهم من ذهب إلى أن ذلك مجاز، وأنه ظهر منهما عن اختيار الطاعة والتذلل والخضوع ما هو بمنزلة القول، قال : والقول الأول أحسن، لأنه لا شيء يدفعه، وأن العبرة فيه أتم، والقدرة فيه أظهر. انتهى.
وقال الزمخشري : ويعني أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما، فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وجاءتا في ذلك كالمأمور المطيع، إذ أورد عليه فعل الآمر فيه. على أن اللّه تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما : ائْتِيا، شئتما ذلك أو أبيتما، فقالتا : آتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب، ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني؟ قال الوتد : سل من يدقني، فلم يتركني وراء الحجر الذي ورائي. فإن قلت : لم ذكر السماء مع الأرض وانتظمهما في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال : وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «١»، فالمعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ائت يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك، وائت يا سماء مقببة سقفا لهم. ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع، كما يقول : أتى عمله مرضيا مقبولا. ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة، والتدبير من كون الأرض قرارا للسماء، وكون السماء سقفا للأرض، وينصره قراءة من قرأ : أتيا وأتينا من المواتاة، وهي الموافقة، أي لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها، قالتا : وافقنا وساعدنا.
ويحتمل وافقا أمري ومشيئتي ولا تمتنعا. فإن قلت : ما معنى طوعا أو كرها؟ قلت : هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال، كما يقول الجبار لمن يحب

(١) سورة النازعات : ٧٩/ ٣٠.


الصفحة التالية
Icon