البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٩٨
شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ، ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ.
لما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا، أردفه بكيفية عقوبة الكفار أولئك وغيرهم. وانتصب يوم باذكر. وقرأ الجمهور : يُحْشَرُ مبنيا للمفعول، وأَعْداءُ رفعا، وزيد بن عليّ، ونافع، والأعرج، وأهل المدينة : بالنون أعداء نصبا، وكسر الشين الأعرج وتقدم معنى يُوزَعُونَ في النمل، وحَتَّى : غاية ليحشروا، أَعْداءُ اللَّهِ : هم الكفار من الأولين والآخرين، وما بعد إذا زائدة للتأكيد. وقال الزمخشري : ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها ومثله قوله : أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ «١» : أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به.
انتهى. ولا أدري أن معنى زيادة ما بعد إذ التوكيد فيها، ولو كان التركيب بغير ما، كان بلا شك حصول الشرط من غير تأخر، لأن أداة الشرط ظرف، فالشهادة واقعة فيه لا محالة، وفي الكلام حذف، التقدير : حَتَّى إِذا ما جاؤُها، أي النار، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بما اكتسبوا من الجرائم، وكانوا حسبوا أن لا شاهد عليهم.
ففي الحديث :«أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى، ثم تنطق الجوارح فيقول : تبا لك، وعنك كنت أدافع».
ولما كانت الحواس خمسة : السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وكان الذوق مندرجا في اللمس، إذ بمماسة جلدة اللسان والحنك للمذوق يحصل إدراك المذوق، وكان حسن الشم ليس فيه تكليف ولا أمر ولا نهي، وهو ضعيف، اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس، إذ هذه هي التي جاء فيها التكليف، ولم يذكر حاسة الشم لأنه لا تكليف فيه، فهذه واللّه أعلم حكمة الاقتصار على هذه الثلاثة. والظاهر أن الجلود هي المعروفة. وقيل : هي الجوارح كنى بها عنها. وقيل : كنى بها عن الفروج. قيل : وعليه أكثر المفسرين، منهم ابن عباس، كما كنى عن النكاح بالسر. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الجرائم. ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم، فلم تذكر سببا غير أن اللّه تعالى أنطقها.