البحر المحيط، ج ٩، ص : ٤٤٤
أذهبتم على الخبر، أي فيقال لهم : أذهبتم، ولذلك حسنت الفاء في قوله : فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ. وقرأ قتادة، ومجاهد، وابن وثاب، وأبو جعفر، والأعرج، وابن كثير : بهمزة بعدها مدة مطولة، وابن عامر، بهمزتين حققهما ابن ذكوان، ولين الثانية هشام، وابن كثير في رواية. وعن هشام : الفصل بين المحققة والملينة بألف، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير، فهو خبر في المعنى، فلذلك حسنت الفاء، ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء. والطيبات هنا : المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطئ، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية.
وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا، وترك التنعم فيها، والأخذ بالتقشف، وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول اللّه في ذلك ما يقتضي التأسي به. وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ، وعزة نفسه الفاضلة عنها. أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش؟ ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصلائق، ولكن استبقي حسناتي فإن اللّه عز وجل وصف أقواما فقال : أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ. والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب، والصلائق : الخبز الرقاق العريض. قال ابن عباس : وهذا من باب الزهد، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش والمعنى : أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم، لكنكم لم تؤمنوا، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان، ولذلك نزلت عليه : فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ولو أريد الظاهر، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب. وقرىء : الهوان، وهو والهون بمعنى واحدة. ثم بين تلك الكناية بقوله : بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ : أي تترفعون عن الإيمان وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ : أي بمعاصي الجوارح وقدم ذنب القلب، وهو الاستكبار على ذنب الجوارح إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب.
ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى، وهم قوم عاد، وكانوا أكثر أموالا رأشد قوة وأعظم جاها فيهم، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم، وضرب الأمثال. وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه، فقال لرسوله : واذكر لقومك، أهل مكة، هودا عليه السلام، إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ عادا عذبهم اللّه بِالْأَحْقافِ. قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة. وقال ابن إسحاق : من عمان إلى حضرموت. وقال ابن زيد : رمال مشرقة بالشحر من اليمن. وقيل : بين مهرة وعدن. وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني.


الصفحة التالية
Icon