البحر المحيط، ج ٩، ص : ٥١٩
وارتفع بين الناس، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ : أي عن هذه الأشياء فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ : تشديد وحكم بظلم من لم يتب.
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ : أي لا تعملوا على حسبه، وأمر تعالى باجتنابه، لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله. والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر، وصحبة نساء المغاني، وإدمان النظر إلى المرد. فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح، ولا إثم فيه، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر، ولا يزني، ولا يعبث بالشبان، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء. فهذا هو المنهي عنه، ويجب أن يزيله. والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. وقال الزمخشري : والهمزة فيه بدل عن الواو، كأنه يثم الأعمال، أي يكسرها بإحباطه، وهذا ليس بشيء، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز. تقول : أثم يأثم فهو آثم، والإثم والآثام، فالهمزة أصل وليست بدلا عن واو. وأما يثم فأصله يوثم، وهو من مادة أخرى. وقيل : الإثم متعلق بتكلم الظان.
أما إذا لم يتكلم، فهو في فسحة، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها
قول النبي صلى اللّه عليه وسلم :«الحزم سوء الظن».
وقرأ الجمهور : ولا تجسسوا بالجيم. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه. وقيل لابن مسعود : هل لك في فلان تقطر لحيته خمرا؟ فقال :
إنا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به. وفي الحديث :«أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم»
، وقد وقع عمر رضي اللّه تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة، وكان دخل عليه هجما، فلما ذكر له نهي اللّه تعالى عن التجسس، انصرف عمر.
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، يقال : غابه واغتابه، كغاله واغتاله والغيبة من الاغتياب، كالغيلة من الاغتيال، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه. وفي الحديث :«سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما الغيبة فقال : أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع، فقال : يا رسول اللّه وإن كان حقا؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إذا قلت باطلا فذلك البهتان»، وفي الصحيحين فقد بهته.
وقال ابن عباس : الغيبة أدام كلاب الناس. وقالت عائشة عن امرأة : ما رأيت أجمل