البحر المحيط، ج ٩، ص : ٥٦
ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم
، واحتج عليهم بقوله : اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ : أي وهم على هدى من اللّه. أمرهم باتباع المرسلين، أي هم رسل اللّه إليكم فاتبعوهم، ثم أمرهم ثانيا بجملة جامعة في الترغيب، في كونهم لا ينقص منهم من حطام دنياهم شيء، وفي كونهم يهتدون بهداهم، فيشتملون على خيري الدنيا والآخرة.
وقد أجاز بعض النحويين في مَنْ أن تكون بدلا من الْمُرْسَلِينَ، ظهر فيه العامل كما ظهر إذا كان حرف جر، كقوله تعالى : لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ «١».
والجمهور : لا يعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب، بدلا، بل يجعلون ذلك مخصوصا بحرف الجر. وإذا كان الرافع والناصب، سمعوا ذلك بالتتبيع لا بالبدل. وفي قوله :
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً، دليل على نقص من يأخذ أجرا على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة له، كالصلاة.
ولما أمرهم باتباع المرسلين، أخذ يبدي الدليل في اتباعهم وعبادة اللّه، فأبرزه في صورة نصحه لنفسه، وهو يريد نصحهم ليتلطف بهم ويراد بهم ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، فوضع قوله : وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، موضع : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ ولذلك قال : وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، ولو لا أنه قصد ذلك لقال : وإليه أرجع. ثم أتبع الكلام كذلك مخاطبا لنفسه فقال : أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قاصرة عن كل شيء، لا تنفع ولا تضر؟ فإن أرادكم اللّه بضر، وشفعت لكم، لم تنفع شفاعتهم، ولم يقدروا على إنقاذكم فيه، أولا بانتفاء الجاه عن كون شفاعتهم لا تنفع، ثم ثانيا بانتفاء القدر. فعبر بانتفاء الإنقاذ عنه، إذ هو نتيجته. وفتح ياء المتكلم في يردني مع طلحة السمان، كذا في كتاب ابن عطية، وفي كتاب ابن خالويه طلحة بن مطرف، وعيسى الهمداني، وأبو جعفر، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو. وقال الزمخشري :
وقرىء إن يردني الرحمن بضر بمعنى : إن يجعلني موردا للضر. انتهى. وهذا واللّه أعلم رأي في كتب القراءات، يردني بفتح الياء، فتوهم أنها ياء المضارعة، فجعل الفعل متعديا بالياء المعدية كالهمزة، فلذلك أدخل عليه همزة التعدية، ونصب به اثنين. والذي في كتب القراء الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطأ ونطقا لالتقاء الساكنين. قال في كتاب ابن خالويه : بفتح ياء الإضافة. وقال في اللوامح : إن يردني الرحمن بالفتح، وهو أصل الياء عند البصرية، لكن هذه محذوفة، يعني البصرية، أي المثبتة بالخط البربري بالبصر،

(١) سورة الزخرف : ٤٣/ ٣٣.


الصفحة التالية
Icon