البحر المحيط، ج ٩، ص : ٥٦١
وعقابه، ووحدوه ولا تشركوا به شيئا. وكرر إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز عند اللّه إلا الجامع بينهما. ألا ترى إلى قوله : لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً؟ «١» والمعنى : قل يا محمد ففروا إلى اللّه.
انتهى، وهو على طريق الاعتزال. وقد رددنا عليه في تفسير لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها في موضع هذه الآية.
كَذلِكَ : أي أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم، مثل الأمر من الكفار الذين بعثت إليهم، وهو التكذيب. ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ : أو للتفصيل، أي قال بعض ساحر، وقال بعض مجنون، وقال بعض كلاهما، ألا ترى إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام لم يقولوا عنه إنه ساحر، بل قالوا به جنة، فجمعوا في الضمير ودلت أو على التفصيل؟ أَتَواصَوْا بِهِ : أي بذلك القول، وهو توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة على تكذيب الأنبياء، مع افتراق أزمانهم، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ : أي لم يتواصوا به، لأنهم لم يكونوا في زمان واحد، بل جمعتهم علة واحدة، وهي كونهم طغاة، فهم مستعلون في الأرض، مفسدون فيها عاتون.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ : أي أعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة، فلم يجيبوا. فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ : إذ قد بلغت ونصحت. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ : تؤثر فيهم وفيمن قدر اللّه أن يؤمن، وما دل عليه الظاهر من الموادعة منسوخ بآية السيف. وعن عليّ، كرم اللّه وجهه : لما نزل فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، حزن المسلمون وظنوا أنه أمر بالتولي عن الجميع، وأن الوحي قد انقطع، نزلت وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
، فسروا بذلك. إِلَّا لِيَعْبُدُونِ : أي وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ الطائعين، قاله زيد بن أسلم وسفيان، ويؤيده رواية ابن عباس،
عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :«وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين».
وقال علي وابن عباس : إِلَّا لِيَعْبُدُونِ : إلا لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبادة.
فعبر بقوله : لِيَعْبُدُونِ، إذ العبادة هي مضمن الأمر، فعلى هذا الجن والإنس عام. وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : إلا معدين ليعبدون، وكأن الآية تعديد نعمه، أي خلقت لهم حواس وعقولا وأجساما منقادة، نحو : العبادة، كما تقول : هذا مخلوق لكذا،