البحر المحيط، ج ٩، ص : ٨٤
العاصي بن وائل، أو أمية بن خلف، أو أبي بن خلف، أقوال أصحها أنه أبي بن خلف، رواه ابن وهب عن مالك، وقاله ابن إسحاق وغيره. والقول أنه أمية، قاله مجاهد وقتادة ويحتمل أن كلا منهم واقع ذلك منه.
وقد كان لأبيّ مع الرسول مراجعات ومقامات، جاء بالعظم الرميم بمكة، ففتته في وجهه الكريم وقال : من يحيي هذا يا محمد؟ فقال :«اللّه يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم»، ثم نزلت الآية. وأبيّ هذا قتله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيده يوم أحد بالحربة، فخرجت من عنقه.
ووهم من نسب إلى ابن عباس أن الجائي بالعظم هو عبد اللّه بن أبي بن سلول، لأن السورة والآية مكية بإجماع، ولأن عبد اللّه بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة. وبين قوله :
فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وبين : خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، جمل محذوفة تبين أكثرها في قوله في سورة المؤمنون : ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ «١»، وإنما اعتقب قوله : فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ الوصف الذي آل إليه من التمييز والإدراك الذي يتأتى معه الخصام، أي فإذا هو بعد ما كان نطفة، رجل مميز منطيق قادر على الخصام، مبين معرب عما في نفسه.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ : أي نشأته من النطفة، فذهل عنها وترك ذكرها على طريق اللدد والمكابرة والاستبعاد لما لا يستبعد. وقرأ زيد بن علي : ونسي خالقه، اسم فاعل والجمهور : خلقه، أي نشأته. وسمى قوله : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة اللّه على إحياء الموتى، كما هم عاجزون عن ذلك. وقال الزمخشري : والرميم اسم لما بلي من العظام غير صفة، كالرمة والرفاة، فلا يقال : لم لم يؤنث؟ وقد وقع خبرا لمؤنث، ولا هو فعيل أو مفعول. انتهى.
واستدل بقوله : قُلْ يُحْيِيهَا على أن الحياة تحلها، وهذا الاستدلال ظاهر. ومن قال : إن الحياة لا تحلها، قال : المراد بإحياء العظام : ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حسن حساس. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ : يعلم كيفيات ما يخلق، لا يتعاظمه شيء من المنشآت والمعدات جنسا ونوعا، دقة وجلالة.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً : ذكر ما هو أغرب من خلق الإنسان من النطفة، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء، وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر. ألا ترى أن الماء يطفىء النار؟ ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء.