مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٧٣
لهم أنه جلس على باب هذا الجحيم تسعة عشر نوعا من الزبانية، وهي الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة، والشهوة، والغضب، والقوى الطبيعية السبع، وكل واحد من هذه التسعة عشر فهو واحد بحسب الجنس، إلا أنه يدخل تحت كل واحد منها أعداد لا نهاية لها بحسب الشخص والعدد، واعتبر ذلك بالقوة الباصرة، فإن الأشياء التي تقوي القوة الباصرة على إدراكها أمور غير متناهية، ويحصل من إبصار كل واحد منها أثر خاص في القلب، وذلك الأثر يجر القلب من أوج عالم الروحانيات إلى حضيض عالم الجسمانيات، وإذا عرفت هذا ظهر أن مع كثرة هذه العوائق والعلائق أنه لا خلاص للقلب من هذه الظلمات إلا بإعانة اللّه تعالى وإغاثته، ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصانات العبد ولا نهاية لكمال رحمة اللّه وقدرته وحكمته ثبت أن الاستعاذة باللّه واجبة في كل الأوقات فلهذا السبب يجب علينا في أول كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول (أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم).
الحجة الخامسة : أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان : أحدهما : اللذات الحسية. والثاني :
اللذات الخيالية. وهي لذة الرياسة، وفي كل واحد من هذين القسمين الإنسان إذا لم يمكن يمارس تحصيل تلك اللذات ولم يزاولها لم يكن له شعور بها، وإذا كان عديم الشعور / بها كان قليل الرغبة فيها، ثم إذا مارسها ووقف عليها التذ بها، وإذا حصل الالتذاذ بها قويت رغبته فيها، وكلما اجتهد الإنسان حتى وصل إلى مقام آخر في تحصيل اللذات والطيبات وصل في شدة الرغبة وقوة الحرص إلى مقام آخر أعلى مما كان قبل ذلك، فالحاصل أن الإنسان كلما كان أكثر فوزا بالمطالب كان أعظم حرصا وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها، وإذا كان لا نهاية لمراتب الكمالات فكذلك لا نهاية لدرجات الحرص، وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذلك لا يمكن إزالة ألم الشوق والحرص عن القلب، فثبت أن هذا مرض لا قدرة للعبد على علاجه، ووجب الرجوع فيه إلى الرحيم الكريم الناصر لعباده فيقال :(أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم).
الحجة السادسة : في تقرير ما ذكرناه قوله تعالى : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وقوله : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة : ٤٥] وقول موسى لقومه اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف : ١٢٨] وفي بعض الكتب الإلهية إن اللّه تعالى يقول :«و عزتي وجلالي، لأقطعن أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأخيبنه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، ولأجعلنه متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني».
مذهب الجبرية في الاستعاذة :
المسألة الثالثة : في أن الاستعاذة كيف تصح على مذهب أهل الجبر ومذهب القدرية قالت المعتزلة :
قوله :(أعوذ باللّه) يبطل القول بالجبر من وجوه :- الأول : أن قوله :(أعوذ باللّه) اعتراف بكون العبد فاعلا لتلك الاستعاذة، ولو كان خالق الأعمال هو اللّه تعالى لامتنع كون العبد فاعلا لأن تحصيل الحاصل محال، وأيضا فإذا خلقه اللّه في العبد امتنع دفعه، وإذا لم يخلقه اللّه فيه امتنع تحصيله. فثبت أن قوله :(أعوذ باللّه) اعتراف بكون العبد موجدا لأفعال نفسه.