مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٧٤
والثاني : أن الاستعاذة إنما تحسن من اللّه تعالى إذا لم يكن اللّه تعالى خالقا للأمور التي منها يستعاذ. أما إذا كان الفاعل لها هو اللّه تعالى امتنع أن يستعاذ باللّه منها لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ باللّه من اللّه في عين ما يفعله اللّه.
والثالث : أن الاستعاذة باللّه من المعاصي، تدل على أن العبد غير راض بها، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق اللّه تعالى وقضائه وحكمه وجب على العبد كونه راضيا بها، لما ثبت بالإجماع / أن الرضا بقضاء اللّه واجب.
والرابع : أن الاستعاذة باللّه من الشيطان إنما تعقل وتحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلا للشيطان، أما إذا كانت فعلا للّه ولم يكن للشيطان في وجودها أثر ألبتة فكيف يستعاذ من شر الشيطان، بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر اللّه تعالى، لأنه لا شر إلا من قبله.
الخامس : أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا وأنت يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك وحكمت بها علي ولا قدرة لي على مخالفة حكمك ثم قلت : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة : ٢٨٦] وقلت : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة : ١٨٥] وقلت :
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج : ٧٨] فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القوية كيف يجوز في حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني؟.
السادس : جعلتني مرجوما ملعونا بسبب جرم صدر مني أو لا بسبب جرم صدر مني؟ فإن كان الأول فقد بطل الجبر، وإن كان الثاني فهذا محض الظلم، وأنت قلت : وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ [غافر : ٣١] فكيف يليق هذا بك؟.
فإن قال قائل : هذه الإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر، وأنا لا أقول بالجبر، ولا بالقدر، بل أقول : الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر، وهو الكسب.
فنقول : هذا ضعيف، لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال أو لا يكون، فإن كان الأول فهو تمام القول بالاعتزال، وإن كان الثاني فهو الجبر المحض، والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول، فكيف يعقل حصول الواسطة.
قال أهل السنة والجماعة أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين :- الأول : أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين، أو كانت صالحة للطرفين معا، فإن كان الأول فالجبر لازم، وإن كان الثاني فرجحان أحد الطرفين على الآخر إما أن يتوقف على المرجح، أو لا يتوقف فإن كان الأول ففاعل ذلك المرجح إن كان هو العبد عاد التقسيم الأول فيه، وإن كان هو اللّه تعالى فعند ما يفعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع، وعند ما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع، وحينئذ يلزمكم كل ما ذكرتموه، وأما الثاني : وهو أن يقال : إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح فهذا باطل لوجهين : الأول : أنه لو جاز ذلك لبطل الاستدلال بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح، والثاني : أن على هذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعا على سبيل الاتفاق، ولا يكون صادرا عن العبد، وإذا