مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٨٧
ولا يجوز أن يكون كل مطلوب مطلوبا لغيره. وأن يكون كل مهروب مهروبا عنه لغيره : وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل، وهما محالان، فثبت أنه لا بد من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوبا لذاته، وبوجود شيء يكون مهروبا عنه لذاته.
المقدمة الثانية : إن الاستقراء دل على أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور، والمطلوب بالتبع ما يكون وسيلة إليهما، والمهروب عنه بالذات هو الألم والحزن، والمهروب عنه بالتبع ما يكون وسيلة إليهما.
المقدمة الثالثة : إن اللذيذ عند كل قوة من القوى النفسانية شيء آخر، فاللذيذ عند القوة الباصرة شيء، واللذيذ عند القوة السامعة شيء آخر، واللذيذ عند القوة الشهوانية شيء ثالث، واللذيذ عند القوة الغضبية شيء رابع، واللذيذ عند القوة العاقلة شيء خامس.
المقدمة الرابعة : إن القوة الباصرة إذا أدركت موجودا في الخارج لزم من حصول ذلك الإدراك البصري وقوف الذهن على ماهية ذلك المرئي، وعند الوقوف عليه يحصل العلم بكونه لذيذا أو مؤلما أو خاليا عنهما، فإن حصل العلم بكونه لذيذا ترتب على حصول هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى تحصيله، وإن حصل العلم بكونه مؤلما ترتب على هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى البعد عنه والفرار منه، فإن لم يحصل العلم بكونه مؤلما ولا بكونه لذيذا لم يحصل في القلب لا رغبة إلى الفرار عنه ولا رغبة إلى تحصيله.
المقدمة الخامسة : إن العلم بكونه لذيذا إنما يوجب حصول الميل والرغبة في تحصيله إذا حصل ذلك العلم خاليا عن المعارض والمعاوق، فأما إذا حصل هذا المعارض لم يحصل ذلك الاقتضاء، مثاله إذا رأينا طعاما لذيذا فعلمنا بكونه لذيذا، إنما يؤثر في الإقدام على تناوله إذا لم نعتقد أنه حصل فيه ضرر زائد، أما إذا اعتقدنا أنه حصل فيه ضرر زائد فعند هذا يعتبر العقل كيفية المعارضة والترجيح، فأيهما غلب على ظنه أنه أرجح عمل بمقتضى ذلك الرجحان، ومثال آخر لهذا المعنى : إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يلقي نفسه من السطح العالي، إلا أنه إنما يقدم على هذا العمل إذا اعتقد أنه بسبب تحمل ذلك العمل المؤلم / يتخلص عن مؤلم آخر أعظم منه، أو يتوصل به إلى تحصيل منفعة أعلى حالا منها، فثبت بما ذكرنا أن اعتقاد كونه لذيذا أو مؤلما إنما يوجب الرغبة والنفرة إذا خلا ذلك الاعتقاد عن المعارض.
المقدمة السادسة : في بيان أن التقرير الذي بيناه يدل على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيبا ذاتيا لزوميا عقليا، وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات، إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك، فامتنع صيرورتها مصدرا للفعل بدلا عن الترك، وللترك بدلا عن الفعل، إلا بضميمة تنضم إليها، وهي الإرادات ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة، ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه، ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان، وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جواهر النفس من الأسباب الخارجة، وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن اللّه تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب، فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان.
إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا : ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو


الصفحة التالية
Icon