مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٨٨
هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار، فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها، وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذا أو مؤلما، وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بد وأن يكون يخلق اللّه تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه، وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله أم لازم لزوما ذاتيا واجبا، فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائما مال طبعه إليه، وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب، فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة، فلو قدرنا شيطانا من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر، لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، وإن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل، بل الحق أن نقول : إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام، وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة، هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال.
والجواب : أن كل ما ذكرتموه حق وصدق، إلا أنه لا يبعد أن يكون الإنسان غافلا عن الشيء فإذا ذكره الشيطان ذلك الشيء تذكره، ثم عند التذكر يترتب الميل عليه، ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل، فالذي أتى به الشيطان الخارجي ليس إلا ذلك التذكر، وإليه الإشارة بقوله تعالى حاكيا عن إبليس أنه قال : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم : ٢٢] إلا أنه بقي لقائل أن يقول : فالإنسان إنما قدم على المعصية بتذكير الشيطان، فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين، وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر ثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه، ولا بد لذلك الاعتقاد الحادث من سبب، وما ذاك إلا اللّه سبحانه وتعالى، وعند هذا يظهر أن الكل من اللّه تعالى، فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق، وصار حاصل الكلام ما
قاله سيد الرسل عليه الصلاة والسلام وهو قوله :«أعوذ بك منك»
واللّه أعلم.
الخواطر والاختلاف فيها :
المسألة الحادية عشرة :[الخواطر والاختلاف فيها] اعلم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في دخل قلبه ودماغه أصواتا خفية وحروفا خفية، فكأن متكلما يتكلم معه، ومخاطبا يخاطبه، فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه، ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة إن تلك الأشياء ليست حروفا ولا أصواتا، وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات، وتخيل الشيء عبارة عن حضور رسمه ومثاله في الخيال، وهذا كما أنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص، فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب، بل الموجود في العقل والقلب صورها وأمثلتها ورسومها، وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة، فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال، وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورها، وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك، فهذا قول جمهور الفلاسفة، ولقائل أن يقول : هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساو


الصفحة التالية
Icon