مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٩١
التكاليف كثيرة جدا وكتب الأحلام محتوية عليها كان قوله :(أعوذ باللّه) متناولا لكلها، وثالثها : المكروهات والآفات والمخافات، ولما كانت أقسامها وأنواعها غير متناهية كان قوله :(أعوذ باللّه) متناولا لكلها، ومن أراد أن يحيط بها فليطالع «كتب الطب» حتى يعرف في ذلك لكل واحد من الأعضاء أنواعا من الآلام والأسقام، ويجب على العاقل أنه إذا أراد أن يقول :(أعوذ باللّه) فإنه يستحضر في ذهنه هذه الأجناس الثلاثة وتقسيم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواعها وأنواع أنواعها، ويبالغ في ذلك التقسيم والتفصيل. ثم إذا استحضر تلك الأنواع التي لا حد لها ولا عد لها في خياله ثم عرف أن قدرة جميع الخلائق لا تفي بدفع هذه الأقسام على كثرتها فحينئذ يحمله طبعه وعقله على أن يلتجئ إلى القادر على دفع ما لا نهاية له من المقدورات فيقول عند ذلك :(أعوذ باللّه القادر على كل المقدورات من جميع أقسام الآفات والمخافات) ولنقتصر على هذا القدر من المباحث في هذا الباب واللّه الهادي.
الباب الثالث في اللطائف المستنبطة من قولنا أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم
النكتة الأولى : في قوله :(أعوذ باللّه) عروج من الخلق إلى الخالق، ومن الممكن إلى الواجب : وهذا هو الطريق المتعين في أول الأمر، لأن في أول الأمر لا طريق إلى معرفته / إلا بأن يستدل باحتياج الخلق على وجود الحق الغني القادر، فقوله :(أعوذ) إشارة إلى الحاجة التامة، فإنه لولا الاحتياج لما كان في الاستعاذة فائدة، وقوله :(باللّه) إشارة إلى الغنى التام للحق، فقول العبد (أعوذ) إقرار على نفسه بالفقر والحاجة، وقوله :
(باللّه) إقرار بأمرين : أحدهما : بأن الحق قادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات، والثاني : أن غيره غير موصوف بهذه الصفة فلا دافع للحاجات إلا هو، ولا معطي للخيرات إلا هو، فعند مشاهدة هذه الحالة يفر العبد من نفسه ومن كل شيء سوى الحق فيشاهد في هذا الفرار سر قوله : فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات : ٥٠] وهذه الحالة تحصل عند قوله :(أعوذ) ثم إذا وصل إلى غيبة الحق وصار غريقا في نور جلال الحق شاهد قوله :
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام : ٩١] فعند ذلك يقول :(أعوذ باللّه). النكتة الثانية : أن قوله :(أعوذ باللّه) اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب، وهذا يدل على أنه لا وسيلة إلى القرب من حضرة اللّه إلا بالعجز والانكسار، ثم من الكلمات النبوية
قوله عليه الصلاة والسلام :«من عرف نفسه فقد عرف ربه»
والمعنى من عرف نفسه بالضعف والقصور عرف ربه بأنه هو القادر على كل مقدور، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالفضل والعدل، ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالكمال والجلال. النكتة الثالثة : أن الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان، وذلك هو الاستعاذة باللّه، إلا أن هذه الاستعاذة نوع من أنواع الطاعة، فإن كان الإقدام على الطاعة يوجب تقديم الاستعاذة عليها افتقرت الاستعاذة إلى تقديم استعاذة أخرى ولزم التسلسل، وإن كان الإقدام على الطاعة لا يحوج إلى تقديم الاستعاذة عليها لم يكن في الاستعاذة فائدة فكأنه قيل له : الإقدام على الطاعة لا يتم إلا بتقديم الاستعاذة عليها، وذلك