مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٩٢
يوجب الإتيان بما لا نهاية له، وذلك ليس في وسعك، إلا أنك إذا عرفت هذه الحالة فقد شاهدت عجزك واعترفت بقصورك فأنا أعينك على الطاعة وأعلمك كيفية الخوض فيها فقل :(أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم). النكتة الرابعة : أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك، ثم أن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن، لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن وتفكر في وعده ووعيده وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات ورهبته عن المحرمات، فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات، فلا جرم كان سعي الشيطان في الصد عنه أبلغ، وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد، فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة. النكتة الخامسة : الشيطان عدو الإنسان كما قال تعالى : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر : ٦] والرحمن مولى الإنسان وخالقه ومصلح مهماته ثم إن الإنسان عند شروعه في الطاعات والعبادات خاف العدو فاجتهد في أن يتحرى مرضاة مالكه ليخلصه من زحمة ذلك العدو، فلما وصل الحضرة وشاهد أنواع البهجة والكرامة نسي العدو وأقبل بالكلية على خدمة الحبيب، فالمقام الأول : هو الفرار وهو قوله :(أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم) والمقام الثاني : وهو الاستقرار في حضرة الملك الجبار فهو قوله :(بسم اللّه الرحمن الرحيم). النكتة السادسة : قال تعالى : لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة : ٧٩] فالقلب لما تعلق بغير اللّه واللسان لما جرى بذكر غير اللّه حصل فيه نوع من اللوث، فلا بد من استعمال الطهور، فلما قال : أَعُوذُ بِاللَّهِ حصل الطهور، فعند ذلك يستعد للصلاة الحقيقة وهي ذكر اللّه تعالى فقال : بِسْمِ اللَّهِ.
النكتة السابعة : قال أرباب الإشارات : لك عدوان أحدهما ظاهر والآخر باطن، وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالى في العدو الظاهر : قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة : ٢٩] وقال في العدو الباطن : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر : ٦] فكأنه تعالى قال : إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك الملك، كما قال تعالى : يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران : ١٢٥] وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملك كما قال تعالى : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر : ٤٢] وأيضا فمحاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر، لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا، والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين واليقين، وأيضا فالعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين، والعدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين، وأيضا فمن قتله العدو الظاهر كان شهيدا، ومن قتله العدو الباطن كان طريدا، فكان الاحتراز عن شر العدو الباطن أولى، وذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه (أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم). النكتة الثامنة : إن قلب المؤمن أشرف البقاع، فلا تجد ديارا طيبة ولا بساتين عامرة ولا رياضا ناضرة إلا وقلب المؤمن أشرف منها، بل قلب المؤمن كالمرآة في الصفاء، بل فوق المرآة، لأن المرآة إن عرض عليها حجاب لم ير فيها شيء وقلب المؤمن لا يحجبه السموات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر : ١٠] بل القلب مع جميع هذه الحجب يطالع جلال الربوبية ويحيط علما بالصفات الصمدية، ومما يدل على أن القلب أشرف البقاع وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام قال :
«القبر روضة من رياض الجنة» وما ذاك إلا أنه صار مكان عبد صالح ميت، فإذا كان القلب / سريرا لمعرفة اللّه