مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٤٩٤
فإن قيل : أليس من لم يعاقبه اللَّه تعالى ويتفضل عليه فقد حصل له الفوز المبين وذلك يبطل دلالة الآية على قولكم؟
قلنا : هذا الذي ذكرتموه مدفوع من وجوه : الأول : أن التفضل يكون كالابتداء من قبل اللَّه تعالى، وليس يكون ذلك مطلوبا من الفعل والفوز هو الظفر بالمطلوب، فلا بدّ وأن يفيد أمرا مطلوبا. والثاني : أن الفوز المبين لا يجوز حمله على التفضل بل يجب حمله على ما يقتضى مبالغة في عظم النعمة، وذلك لا يكون إلا ثوابا. والثالث : أن الآية معطوفة على قوله إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام : ١٥] والمقابل للعذاب هو الثواب، فيجب حمل هذه الرحمة على الثواب.
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف جدا وضعفه ظاهر فلا حاجة فيه إلى الاستقصاء واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٧]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا دليل آخر في بيان أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير اللَّه وليا، وتقريره أن الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها. والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما. والخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر وبين حصول النفع. فإذا كان الأمر كذلك فقد ثبت الحصر في أن الإنسان إما أن يكون في الضر أو في الخير لأن زوال الضر خير سواء حصل فيه اللذة أو لم تحصل. وإذا ثبت هذا الحصر فقد بيّن اللَّه تعالى أن المضار قليلها وكثيرها لا يندفع إلا باللَّه، والخيرات لا يحصل قليلها وكثيرها إلا باللَّه. والدليل على أن الأمر كذلك، أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته أما الواجب لذاته فواحد فيكون كل ما سواه ممكنا لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، وكل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق وتكوينه فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به، وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به، فثبت بهذا البرهان العقلي البين صحة ما دلّت الآية عليه.
فإن قيل : قد نرى أن الإنسان يدفع المضار عن نفسه بماله وبأعوانه وأنصاره، وقد يحصل الخير له بكسب نفسه وبإعانة غيره، وذلك يقدح في عموم الآية. وأيضا فرأس المضار هو الكفر فوجب أن يقال إنه لم يندفع إلا بإعانة اللَّه تعالى. ورأس الخيرات هو الإيمان، فوجب أن يقال أنه لم يحصل إلا بإيجاد اللَّه تعالى، ولو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يستحق الإنسان بفعل الكفر عقابا ولا بفعل الإيمان ثوابا. وأيضا فإنا نرى أن الإنسان ينتفع بأكل الدواء ويتضرر بتناول السموم، وكل ذلك يقدح في ظاهر الآية.
والجواب عن الأول : أن كل فعل يصدر عن الإنسان فإنما يصدر عنه إذا دعاه الداعي إليه لأن الفعل بدون الداعي محال، وحصول تلك الداعية ليس إلا من اللَّه تعالى. وعلى هذا التقدير فيكون الكل من اللَّه تعالى وهكذا القول في كل ما ذكرتموه من السؤالات.
المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر إمساس الضر وإمساس الخير، إلا أنه ميّز الأول عن الثاني بوجهين : الأول :
أنه تعالى قدم ذكر إمساس الضر على ذكر إمساس الخير، وذلك تنبيه على أن جميع المضار لا بدّ وأن يحصل


الصفحة التالية
Icon