مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥٠٨
[في قوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ] اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وينأى عن طاعته بأنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية وفيها مسائل :
المسألة الأولى : قوله وَلَوْ تَرى يقتضي له جوابا وقد حذف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن، وجاز حذفه لعلم المخاطب به وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر. ولو قدرت الجواب، كان التقدير : لرأيت سوء منقلبهم أو لرأيت سوء حالهم وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى : أنك لو قلت لغلامك، واللَّه لئن قمت إليك وسكت عن الجواب، ذهب بفكره إلى أنواع المكروه، من الضرب، والقتل، والكسر، وعظم الخوف ولم يدر أي الأقسام تبغي. ولو قلت : واللَّه لئن قمت إليك لأضربنك فأتيت بالجواب، لعلم أنك لم تبلغ شيئا غير الضرب ولا يخطر بباله نوع من المكروه سواه، فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيرا في حصول الخوف. ومنهم من قال جواب لَوْ مذكور من بعض الوجوه والتقدير ولو ترى إذا وقفوا على النار ينوحون ويقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب.
المسألة الثانية : قوله وُقِفُوا يقال وقفته وقفا، ووقفته وقوفا كما يقال رجعته رجوعا. قال الزجاج :
ومعنى وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يحتمل ثلاثة أوجه : الأول : يجوز أن يكون قد وقفوا عندها وهم يعاينونها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار. والثاني : يجوز أن يكونوا وقفوا عليها وهي تحتهم، بمعنى أنهم وقفوا فوق النار على الصراط، وهو جسر فوق جهنم. والثالث : معناه عرفوا حقيقتها تعريفا من قولك وقفت فلانا على كلام فلان أي علمته معناه وعرفته. وفيه وجه رابع : وهم أنهم يكونون في جوف النار، وتكون النار محيطة بهم، ويكونون غائصين فيها وعلى هذا التقدير فقد أقيم (على) مقام (في) وإنما صح على هذا التقدير، أن يقال :
وقفوا على النار، لأن النار دركات وطبقات، بعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء.
فإن قيل : فلما ذا قال وَلَوْ تَرى ؟ وذلك يؤذن بالاستقبال ثم قال بعده إذ وقفوا وكلمة إِذْ للماضي ثم قال بعده، فقالوا وهو يدل على الماضي.
قلنا : أن كلمة (إذ) تقام مقام (إذا) إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد، وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر، فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي، يفيد المبالغة من هذا الاعتبار.
المسألة الثالثة : قال الزجاج : الإمالة في النار حسنة جيدة، لأن ما بعد الألف مكسور وهو حرف الراء، كأنه تكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين.
أما قوله تعالى : فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله يا لَيْتَنا نُرَدُّ يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا. فأما قوله وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ففيه قولان : أحدهما : أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين.
فإن قالوا هذا باطل لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ والمتمني لا يوصف بكونه كاذبا.
قلنا : لا نسلم أن المتمني لا يوصف بكونه كاذبا لأن من أظهر التمني، فقد أخبر ضمنا كونه مريدا لذلك


الصفحة التالية
Icon