مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥٠٩
الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه، ومثاله أن يقول الرجل : ليت اللَّه يرزقني مالا فأحسن إليك، فهذا تمن في حكم الوعد، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه لقيل إنه كذب في وعده.
القول الثاني : أن التمني تمّ عند قوله يا لَيْتَنا نُرَدُّ وأما قوله وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ عائد إليه وتقدير الكلام يا ليتنا نرد، ثم قالوا ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين، ثم إنه تعالى كذبهم وبيّن أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان.
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر نرد ونكذب بالرفع فيهما ونكون بالنصب، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم نُرَدُّ بالرفع، ونُكَذِّبَ ونَكُونَ بالنصب فيهما، والباقون بالرفع في الثلاثة، فحصل من هذا أنهم اتفقوا على الرفع في قوله نُرَدُّ وذلك لأنه داخلة في التمني لا محالة، فأما الذين رفعوا قوله ولا نكذب... ونكون ففيه وجهان : الأول : أن يكون معطوفا على قوله نُرَدُّ فتكون الثلاثة داخل في التمني، فعلى هذا قد تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين.
والوجه الثاني : أن يقطع ولا نكذب وما بعده عن الأول، فيكون التقدير : يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، فهم ضمنوا أنهم لا يكذبون بتقدير حصول الرد. والمعنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد أي قد عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبدا. قال سيبويه : وهو مثل قولك دعني ولا أعود، فههنا المطلوب بالسؤال تركه. فأما أنه لا يعود فغير داخل في الطلب، فكذا هنا قوله يا لَيْتَنا نُرَدُّ الداخل في هذا التمني الرد، فأما ترك التكذيب وفعل الإيمان فغير داخل في التمني، بل هو حاصل سواء حصل الرد أو لم يحصل، وهذان الوجهان ذكرهما الزجاج والنحويون قالوا : الوجه الثاني أقوى، وهو أن يكون الرد داخلا في التمني، ويكون ما بعده إخبارا محضا. واحتجوا عليه بأن اللَّه كذبهم في الآية الثانية فقال :
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ والمتمني لا يجوز تكذيبه، وهذا اختيار أبي عمرو. وقد احتج على صحة قوله بهذه الحجة، إلا أنا قد أجبنا عن هذه الحجة، وذكرنا أنها ليست قوية، وأما من قرأ وَلا نُكَذِّبَ. ونَكُونَ بالنصب ففيه وجوه : الأول : بإضمار (أن) على جواب التمني، والتقدير : يا ليتنا نرد وأن لا نكذب. والثاني : أن تكون الواو مبدلة من الفاء، والتقدير : يا ليتنا نرد فلا نكذب، فتكون الواو هاهنا بمنزلة الفاء في قوله لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر : ٥٨] ويتأكد هذا الوجه بما روي أن ابن مسعود كان يقرأ فلا نكذب بالفاء على النصب، والثالث : أن يكون معناه الحال، والتقدير : يا ليتنا نرد غير مكذبين، كما تقول العرب- لا تأكل السمك وتشرب اللبن- أي لا تأكل السمك شاربا للبن.
واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني. وأما أن المتمني كيف يجوز / تكذيبه فقد سبق تقريره. وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع ولا نكذب وينصب وَنَكُونَ فالتقدير : أنه يجعل قوله وَلا نُكَذِّبَ داخلا في التمني، بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين واللَّه أعلم.
المسألة الثالثة : قوله فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ لا شبهة في أن المراد تمني ردهم إلى حالة التكليف لأن لفظ الرد إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال، فالمفهوم منه الرد إلى الحالة الأولى. والظاهر أن من صدر منه تقصير ثم عاين الشدائد والأحوال بسبب ذلك التقصير أنه يتمنى الرد إلى الحالة الأولى، ليسعى في


الصفحة التالية
Icon