مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥٣٨
كنت رسولا من عند اللَّه، فاطلب من اللَّه حتى يوسع علينا منافع الدنيا وخيراتها، ويفتح علينا أبواب سعادتها.
فقال تعالى قل لهم إني لا أقول لكم عندي خزائن اللَّه، فهو تعالى يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير لا بيدي والخزائن جمع خزانة، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه، بحيث لا تناله الأيدي. وثانيها : قوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ومعناه أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولا من عند اللَّه فلا بدّ وأن تخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار، حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح، ولدفع تلك المضار. فقال تعالى : قل إني لا أعلم الغيب فكيف تطلبون مني هذه المطالب؟
والحاصل أنهم كانوا في المقام الأول يطلبون منه الأموال الكثيرة والخيرات الواسعة، وفي المقام الثاني كانوا يطلبون منه الاخبار عن الغيوب، ليتوسلوا بمعرفة تلك الغيوب إلى الفوز بالمنافع والاجتناب عن المضار والمفاسد. وثالثها : قوله وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ومعناه أن القوم كانوا يقولون ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان : ٧] ويتزوج ويخالط الناس. فقال تعالى : قل لهم إني لست من الملائكة.
واعلم أن الناس اختلفوا في أنه ما الفائدة في ذكر نفي هذه الأحوال الثلاثة؟
فالقول الأول : أن المراد منه أن يظهر الرسول من نفسه التواضع للَّه والخضوع له والاعتراف بعبوديته، حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام.
والقول الثاني : أن القوم كانوا يقترحون منه إظهار المعجزات القاهرة القوية، كقولهم وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء : ٩٠] إلى آخر الآية فقال تعالى في آخر الآية قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء : ٩٣] يعني لا أدعي إلا الرسالة والنبوّة، وأما هذه الأمور التي طلبتموها، فلا يمكن تحصيلها إلا بقدرة اللَّه، فكان المقصود من هذا الكلام إظهار العجز والضعف وأنه لا يستقل بتحصيل هذه المعجزات التي طلبوها منه.
والقول الثالث : أن المراد من قوله لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ معناه إني لا أدعي كوني موصوفا بالقدرة اللائقة بالإله تعالى. وقوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي ولا أدعي كوني موصوفا بعلم اللَّه تعالى. وبمجموع هذين الكلامين حصل أنه لا يدعي الإلهية.
ثم قال : وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وذلك لأنه ليس بعد الإلهية درجة أعلى حالا من الملائكة، فصار حاصل الكلام كأنه يقول لا أدعي الإلهية ولا أدعي الملكية ولكني أدعي الرسالة، وهذا منصب لا يمتنع حصوله للبشر، فكيف أطبقتم على استنكار قولي ودفع دعواي؟
المسألة الثانية : قال الجبائي : الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء، لأن معنى الكلام لا أدعي منزلة فوق منزلتي ولولا أن الملك أفضل وإلا لم يصح ذلك. قال القاضي : إن كان الغرض بما نفى طريقة التواضع فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة، لم يدل على كونهم أفضل.
المسألة الثالثة : قوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ظاهره يدل على أنه لا يعمل إلا بالوحي وهو يدل على حكمين.