مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥٤٣
الرازق لهم ولك هو اللَّه تعالى، فدعهم يكونوا عندك ولا تطردهم.
واعلم أن هذه القصة شبيهة بقصة نوح عليه السلام إذ قال له قومه أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء : ١١١] فأجابهم نوح عليه السلام وقالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء : ١١٢، ١١٣] وعنوا بقولهم الْأَرْذَلُونَ الحاكة والمحترفين بالحرف الخسيسة، فكذلك هاهنا. وقوله فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي ومعناه، ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم، بمعنى أنه لم يكن عليك حسابهم حتى أنك لأجل ذلك الحساب تطردهم، وقوله فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ يجوز أن يكون عطفا على قوله فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبب لأن كونه ظالما معلول طردهم ومسبب له. وأما قوله فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ففيه قولان : الأول : فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسك بهذا الطرد، الثاني : أن تكون من الظالمين لهم لأنهم لما استوجبوا مزيد التقريب والترحيب كان طردهم ظلما لهم، واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٣]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى بيّن في هذه الآية أن كل واحد مبتلى بصاحبه، فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين في الإسلام مسارعين إلى قبوله فقالوا : لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين وأن نعترف لهم بالتبعية، فكان ذلك يشق عليهم. ونظيره قوله تعالى : أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر : ٢٥] لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف : ١١] وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة، فكانوا يقولون كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء مع انا بقينا في هذه الشدة والضيق والقلة.
فقال تعالى : وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فأحد الفريقين يرى الآخر متقدما عليه في المناصب الدينية والفريق الآخر يرى الفريق الأول متقدما عليه في المناصب الدنيوية، فكانوا يقولون أهذا هو الذي فضله اللَّه علينا، وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله اللَّه تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه، إما بحكم المالكية على ما هو قول أصحابنا أو بحسب المصلحة على ما هو قول المعتزلة، فكانوا صابرين في وقت البلاء، شاكرين في وقت الآلاء والنعماء وهم الذين قال اللَّه تعالى في حقهم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجهين : الأول : أن قوله وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ تصريح بأن إلقاء تلك الفتنة من اللَّه تعالى، والمراد من تلك الفتنة ليس إلا اعتراضهم على اللَّه في أن جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدين والاعتراض على اللَّه كفر وذلك يدل على أنه تعالى هو الخالق للكفر. والثاني : أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا والمراد من قوله مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هو أنه من عليهم بالإيمان باللَّه ومتابعة الرسول، وذلك يدل على أن هذه المعاني إنما تحصل من اللَّه تعالى لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد، فاللَّه ما من عليه بهذا الإيمان، بل العبد هو الذي من على نفسه


الصفحة التالية
Icon