مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ١٩٧
فان قيل : لما ذا قال : أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وانما انزل على الرسول.
قلنا : انه منزل على الكل بمعنى انه خطاب للكل.
إذا عرفت هذا فنقول : هذه الآية تدل على ان تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز لان عموم القرآن منزل من عند اللّه تعالى. واللّه تعالى أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس والا لزم التناقض.
فان قالوا : لما ورد الأمر بالقياس في القرآن وهو قوله : فَاعْتَبِرُوا [الحشر : ٢] كان العمل بالقياس عملا بما انزل اللّه.
قلنا : هب انه كذلك الا انا نقول : الآية الدالة على وجوب العمل بالقياس انما تدل على الحكم المثبت بالقياس لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس. واما عموم القرآن فانه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله اللّه ابتداء اولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله اللّه بواسطة شيء آخر فكان الترجيح من جانبنا. واللّه اعلم.
المسألة الثانية : قوله تعالى : وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قالوا معناه ولا تتولوا من دونه اولياء من شياطين الجن والانس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع. ولقائل ان يقول : الآية تدل على ان المتبوع اما ان يكون هو الشيء الذي أنزله اللّه تعالى او غيره.
اما الاول : فهو الذي امر اللّه باتباعه.
واما الثاني : فهو الذي نهى اللّه عن اتباعه فكان المعنى ان كل ما يغاير الحكم الذي أنزله اللّه تعالى فانه لا يجوز اتباعه.
إذا ثبت هذا فنقول : ان نفاة القياس تمسكوا به في نفي القياس فقالوا الآية تدل على انه لا يجوز متابعة غير ما انزل اللّه تعالى والعمل بالقياس متابعة لغير ما أنزله اللّه تعالى فوجب ان لا يجوز.
فان قالوا : لما دل قوله : فَاعْتَبِرُوا على العمل بالقياس كان العمل بالقياس عملا بما أنزله اللّه تعالى أجيب عنه بان العمل بالقياس لو كان عملا بما أنزله اللّه تعالى لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافرا لقوله تعالى :
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة : ٤٤] وحيث أجمعت الامة على عدم التكفير علمنا ان العمل بحكم القياس ليس عملا بما أنزله اللّه تعالى : وحينئذ يتم الدليل.
وأجاب عنه مثبتو القياس : بان كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل قاطع وما ذكرتموه تمسك بظاهر العموم وهو دليل مظنون والقاطع اولى من المظنون.
وأجاب : الأولون بأنكم أثبتم ان الإجماع حجة بعموم قوله : وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء :
١١٥] وعموم قوله : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة : ١٤٣] وعموم قوله : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران : ١١٠] وبعموم
قوله عليه الصلاة والسلام :«لا تجتمع امتي على الضلالة»
وعلى هذا فاثبات كون الإجماع حجة فرع عن التمسك بالعمومات والفرع لا يكون أقوى من الأصل.