مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٠١
تلك الأحوال عليهم لأنه ما كان غائبا عن أحوالهم بل كان عالما بها وما خرج عن علمه شيء منها وذلك يدل على ان الإلهية لا تكمل الا إذا كان الإله عالما بجميع الجزئيات حتى يمكنه ان يميز المطيع عن المعاصي والمحسن عن المسيء فظهر ان كل من أنكر كونه تعالى عالما بالجزئيات امتنع منه الاعتراف بكونه تعالى آمرا ناهيا مثيبا معاقبا ولهذا السبب فانه تعالى أينما ذكر احوال البعث والقيامة بين كونه عالما بجميع المعلومات.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يدل على انه تعالى عالم بالعلم وان قوله من يقول :
انه لا علم للّه قوله باطل.
فان قيل : كيف الجمع بين قوله : فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وبين قوله :
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن : ٣٩] وقوله : وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص : ٧٨].
قلنا فيه وجوه : أحدها : ان القوم لا يسألون عن الأعمال لان الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال وعن الصوارف التي صرفتم عنها. وثانيها : ان السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التوبيخ والاهانة كقول القائم الم أعطك وقوله تعالى : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ [يس : ٦٠] قال الشاعر :
ا لستم خير من ركب المطايا
إذا عرفت هذا فنقول : انه تعالى لا يسال أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد ويسألهم لأجل توبيخ الكفار واهانتهم ونظيره قوله تعالى : وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات : ٢٧] ثم قال : فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون : ١٠١] فان الآية الاولى تدل على ان المسألة الحاصلة بينهم انما كانت على سبيل ان بعضهم يلوم بعضا والدليل عليه قول : فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ [القلم : ٣٠] وقوله : فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ معناه انه لا يسال بعضهم بعضا على سبيل الشفقة واللطف لان النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام.
والوجه الثالث : في الجواب : ان يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال وعن بعضها بعدم السؤال.
المسألة الرابعة : الآية تدل على انه تعالى يحاسب كل عباده لأنهم لا يخرجون عن ان يكونوا رسلا او مرسلا إليهم ويبطل قول من يزعم انه لا حساب على الأنبياء والكفار.
المسألة الخامسة : الآية تدل على كونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة لأنه تعالى قال : وَما كُنَّا غائِبِينَ ولو كان تعالى على العرش لكان غائبا عنا.
فان قالوا : نحمله على انه تعالى ما كان غائبا عنهم بالعلم والاحاطة.
قلنا : هذا تاويل والأصل في الكلام حمله على الحقيقة.
فان قالوا : فأنتم لما قلتم انه تعالى غير مختص بشيء من الاحياز والجهات فقد قلتم ايضا بكونه غائبا.
قلنا : هذا باطل لان الغائب هو الذي يعقل ان يحضر بعد غيبة وذلك مشروط بكونه مختصا بمكان


الصفحة التالية
Icon