مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٠٨
في الحال ولو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب هذا الذم بترك السجود في الحال.
المسألة الخامسة : اعلم ان قوله تعالى : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ طلب الداعي الذي دعاه إلى ترك السجود فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي وهو انه قال : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ومعناه : ان إبليس قال انما لم اسجد لآدم لأني خير منه ومن كان خيرا من غيره فانه لا يجوز امر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدون! ثم بين المقدمة الاولى وهو قوله : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ بأن قال : خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل فوجب كون إبليس خيرا من آدم. اما بيان ان النار أفضل من الطين فلان النار مشرق علوي لطيف خفيف / حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات وايضا فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة واما الارضية والبرد واليبس فهما مناسبان الموت والحياة اشرف من الموت وايضا فنضج الثمار متعلق بالحرارة وايضا فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين واما وقت الشيخوخة فهو وقت البرد واليبس المناسب للارضية لا جرم كان هذا الوقت اردا اوقات عمر الإنسان فأما بيان ان المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر لان شرف الأصول يوجب شرف الفروع. واما بيان ان الأشراف لا يجوز ان يؤمر بخدمة الأدون فلانة قد تقرر في العقول ان من امر أبا حنيفة والشافعي وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحا في العقول فهذا هو تقرير لشبهة إبليس.
فنقول : هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاثة. أولها : ان النار أفضل من التراب فهذا قد تكلمنا فيه في سورة البقرة. واما المقدمة الثانية : وهي ان من كانت مادته أفضل فصورته أفضل فهذا هو محل النزاع والبحث لأنه لما كانت الفضيلة عطية من اللّه ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة ا لا ترى انه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر والنور من الظلمة والظلمة من النور وذلك يدل على ان الفضيلة لا تحصل الا بفضل اللّه تعالى لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر وايضا التكليف انما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل فالمعتبر بما انتهى اليه لا بما خلق منه وايضا فالفضل انما يكون بالأعمال وما يتصل بها لا بسبب المادة الا ترى ان الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر.
المسألة السادسة : احتج من قال انه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس بأنه لو كان تخصيص عموم النص بالقياس جائزا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد والتوبيخ العظيم ولما حصل ذلك دل على ان تخصيص عموم النص بالقياس لا يجوز وبيان الملازمة ان قوله تعالى للملائكة : اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف :
١١] خطاب عام يتناول جميع الملائكة ثم ان إبليس اخرج نفسه من هذا العموم بالقياس وهو انه مخلوق من النار والنار اشرف من الطين ومن كان أصله اشرف فهو اشرف فيلزم كون إبليس اشرف من آدم عليه السلام ومن كان اشرف من غيره فانه لا يجوز ان يؤمر بخدمة الأدون الأدنى. والدليل عليه ان هذا الحكم ثابت في جميع النظائر ولا معنى للقياس الا ذلك فثبت ان إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئا الا انه خصص عموم قوله تعالى / للملائكة : اسْجُدُوا لِآدَمَ بهذا القياس فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لوجب ان لا يستحق إبليس الذم على هذا العمل وحيث استحق الذم الشديد عليه علمنا ان تخصيص النص بالقياس لا


الصفحة التالية
Icon