مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢١٣
لامتنع ان يمهله وان يمكنه من هذه المفاسد فحيث انظره وامهله علمنا انه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلا ومما يقوي ذلك انه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق وعلم من حال إبليس انه لا يدعو الا إلى الكفر والضلال ثم انه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر والباطل ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه ان يفعل ذلك. قالت المعتزلة : اختلف شيوخنا في هذه المسألة : فقال الجبائي : انه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله احد الا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل ايضا والدليل عليه قوله تعالى : ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصافات : ١٦٢ ١٦٣] ولأنه لو ضل به احد لكان بقاؤه مفسدة : وقال ابو هاشم يجوز ان يضل به قوم ويكون خلقه جاريا مجرى خلق زيادة الشهوة فان هذه الزيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح الا ان الامتناع منها يصير أشق ولأجل تلك الزيادة من المشقة تحصل الزيادة في الثواب فكذا هاهنا بسبب إبقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشد وأشق ولكنه لا ينتهي إلى حد الإلجاء والإكراه.
والجواب : اما قول ابي علي فضعيف وذلك لان الشيطان لا بد وان يزين القبائح في قلب الكافر ويحسنها اليه ويذكره ما في القبائح من انواع اللذات والطيبات ومن المعلوم ان حال الإنسان مع حصول هذا التذكير والتزيين لا يكون مساويا لحاله عند عدم هذا التذكير وهذا التزيين والدليل عليه العرف فان الإنسان إذا حصل له جلساء يرغبونه في امر من الأمور ويحسنونه في عينه ويسهلون طريق الوصول اليه ويواظبون على دعوته اليه فانه لا يكون حاله في / الاقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التذكير والتزيين والتزيين والعلم به ضروري واما قول ابي هاشم فضعيف ايضا لأنه إذا صار حصول هذا التذكير والتزيين حاصلا للمرء على الاقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعيا في القائه في المفسدة وما ذكره من خلق الزيادة في الشهوة فهو حجة اخرى لنا في ان اللّه تعالى لا يراعي المصلحة فكيف يمكنه ان يحتج به؟ والذي يقرره غاية التقرير : ان لسبب حصول تلك الزيادة في الشهوة يقع في الكفر وعقاب الأبد ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته انه يزداد ثوابه من اللّه تعالى بسبب زيادة تلك المشقة وحصول هذه الزيادة من الثواب شيء لا حاجة اليه البتة اما دفع العقاب المؤبد فإليه أعظم الحاجات فلو كان اله العالم مراعيا لمصالح العباد لاستحال ان يهمل الأهم الأكمل الأعظم لطلب الزيادة التي لا حاجة إليها ولا ضرورة فثبت فساد هذه المذاهب وانه لا يجب على اللّه تعالى شيء أصلا. واللّه اعلم بالصواب.
اما قوله تعالى : ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ففيه مسائل :
المسألة الاولى : في ذكر هذه الجهات الأربع قولان :
القول الاول : ان كل واحد منها مختص بنوع من الآفة في الدين. والقائلون بهذا القول ذكروا وجوها :
أحدها : ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني أشككهم في صحة البعث والقيامة وَمِنْ خَلْفِهِمْ القي إليهم ان الدنيا قديمة ازلية. وثانيها : ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ والمعنى افترهم عن الرغبة في سعادات الآخرة وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني اقوي رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها وأحسنها في أعينهم وعلى هذين الوجهين فالمراد من قوله : بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآخرة لأنهم يردون عليها ويصلون إليها فهي بين أيديهم وإذا كانت الآخرة بين أيديهم


الصفحة التالية
Icon