مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٣٥
اعلم انه تعالى لما بين احوال التكليف وبين ان لكل احد أجلا معينا لا يتقدم ولا يتأخر بين انهم بعد الموت كانوا مطيعين فلا خوف عليهم ولا حزن وان كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب وقوله : إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هي ان الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط ولذلك لزمت فعلها النون / الثقيلة وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء وهو قوله : فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ وانما قال رسل وان كان خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليه وعليهم السلام لأنه تعالى اجرى الكلام على ما يقتضيه سنته في الأمم وانما قال : مِنْكُمْ لان كون الرسول منهم اقطع لعذرهم وأبين للحجة عليهم من جهات :
أحدها : ان معرفتهم بأحواله وبطهارته تكون متقدمة. وثانيها : ان معرفتهم بما يليق بقدرته تكون متقدمة فلا جرم لا يقع في المعجزات التي تظهر عليه شك وشبهة في انها حصلت بقدرة اللَّه تعالى لا بقدرته فلهذا السبب قال تعالى : وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الانعام : ٩]. وثالثها : ما يحصل من الالفة وسكون القلب إلى أبناء الجنس بخلاف ما لا يكون من الجنس فإنه لا يحصل معه الالفة.
واما قوله : يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فقيل تلك الآيات هي القرآن وقيل الدلائل وقيل الاحكام والشرائع والاولى دخول الكل فيه لان جميع هذه الأشياء آيات اللَّه تعالى لان الرسل إذا جاءوا فلا بد وان يذكروا جميع هذه الأقسام ثم قسم تعالى حال الامة فقال : فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ وجمع هاتين الحالتين مما يوجب الثواب لان الملتقي هو الذي يتقي كل ما نهي اللّه تعالى عنه ودخل في قوله : وَأَصْلَحَ انه اتى بكل ما امر به.
ثم قال تعالى في صفته : فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ اي بسبب الأحوال المستقبلة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اي بسبب الأحوال الماضية لان الإنسان إذا جوز وصول المضرة اليه في الزمان المستقبل خاف وإذا تفكر فعلم انه وصل اليه بعض ما لا ينبغي في الزمان الماضي حصل الحزن في قلبه لهذا السبب والاولى في نفي الحزن ان يكون المراد ان لا يحزن على ما فاته في الدنيا لان حزنه على عقاب الآخرة يجب ان يرتفع بما حصل له من زوال الخوف فيكون كالمعاد وحمله على الفائدة الزائدة اولى فبين تعالى ان حالة في الآخرة تفارق حاله في الدنيا فإنه في الآخرة لا يحصل في قلبه خوف ولا حزن البتة واختلف العلماء في ان المؤمنين من اهل الطاعات هل يلحقهم خوف وحزن عند اهوال يوم القيامة فذهب بعضهم الا انه لا يلحقهم ذلك والدليل عليه هذه الآية.
وايضا قوله تعالى : لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء : ١٠٣] وذهب بعضهم إلى ان يلحقهم ذلك الفزع لقوله تعالى : يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
[الحج : ٢] اي من شدة الخوف.
وأجاب هؤلاء عن هذه الآية : بأن معناه ان أمرهم يئول إلى الأمن والسرور كقول الطبيب للمريض : لا بأس عليك اي أمرك يئول إلى العافية والسلامة وان كان في الوقت في بأس من / علته ثم بين تعالى ان الذين كذبوا بهذه الآيات التي يجيء بها الرسل واستكبروا ان انفوا من قبولها وتمردوا عن التزامها فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون وقد تمسك أصحابنا بهذه الآية على ان الفاسق من اهل الصلاة لا يبقى مخلدا في النار لأنه تعالى بين ان المكذبين بآيات اللّه والمستكبرين عن قبولها هم الذين يبقون مخلدين في النار وكلمة هُمْ تفيد الحصر فذلك يقتضي ان من لا يكون موصوفا بذلك التكذيب والاستكبار لا يبقى مخلدا في النار. واللّه اعلم.


الصفحة التالية
Icon