مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٦١
فان قيل : الحيز والجهة ليس بأمر موجود حتى يقال ذات اللَّه تعالى مفتقرة اليه ومحتاجة اليه فنقول : هذا باطل قطعا لان بتقدير ان يقال ان ذات اللَّه تعالى مختصة بجهة فوق فإنما نميز بحسب الحس بين تلك الجهة وبين سائر الجهات وما حصل فيه الامتياز بحسب الحس كيف يعقل ان يقال انه عدم محض ونفي صرف؟ ولو جاز ذلك لجاز مثله في كل المحسوسات وذلك يوجب حصول الشك في وجود كل المحسوسات وذلك لا يقوله عاقل.
البرهان الخامس : في تقرير انه تعالى يمتنع كونه مختصا بالحيز والجهة نقول : الحيز والجهة لا معنى له الا الفراغ المحض والخلاء الصرف وصريح العقل يشهد ان هذا المفهوم مفهوم واحد لا اختلاف فيه البتة وإذا كان الأمر كذلك كانت الاحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية.
وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان الإله تعالى مختصا بحيز، لكان محدثا وهذا محال فذاك محال وبيان الملازمة : ان الاحياز لما ثبت انها بأسرها متساوية فلو اختص ذات اللَّه تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لأجل ان مخصصا خصصه بذلك الحيز وكل ما كان فعلا لفاعل مختار فهو محدث فوجب ان يكون اختصاص ذات اللَّه بالحيز المعين محدثا فإذا كانت ذاته ممتنعة الخلو عن الحصول في الحيز وثبت ان الحصول في الحيز محدث وبديهة العقل شاهدة بان ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث، لزم القطع بانه لو كان حاصلا في الحيز لكان محدثا ولما كان هذا محالا كان ذلك ايضا محالا.
فان قالوا : الاحياز مختلفة بحسب ان بعضها علو وبعضها سفل فلم لا يجوز ان يقال ذات اللَّه تعالى مختصة بجهة علو؟ فنقول : هذا باطل لان كون بعض تلك الجهات علو وبعضها سفلا احوال لا تحصل الا بالنسبة إلى وجود هذا العالم فلما كان هذا العالم محدثا كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار بل ليس الا الخلاء المحض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه وايضا لو جاز القول بان ذات اللَّه تعالى مختصة ببعض الاحياز على سبيل الوجوب؟ فلم لا يعقل ايضا ان يقال : ان بعض الأجسام اختص ببعض الاحياز على سبيل الوجوب؟ وعلى هذا التقدير فذلك اسم لا يكون قابلا للحركة والسكون فلا يجري فيه / دليل حدوث الأجسام والقائل بهذا القول لا يمكنه اقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون والكرامية وافقونا على ان تجويز هذا يوجب الكفر. واللَّه اعلم.
البرهان السادس : لو كان الباري تعالى حاصلا في الحيز والجهة لكان مشارا اليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك فاما ان لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه واما ان يقبل القسمة.
فان قلنا : انه تعالى يمكن ان يشار اليه بحسب الحس مع انه لا يقبل القسمة المقدارية البتة كان ذلك نقطة لا تنقسم وجوهرا فردا لا ينقسم فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء وذلك لان الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزى فثبت ان هذا بإجماع العقلاء باطل وايضا فلو جاز ذلك فلم لا يعقل ان يقال : اله العالم جزء من ألف جزء من رأس ابرة او ذرة ملتصقة بذنب قملة او نملة؟ ومعلوم ان كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء فان صريح العقل يوجب تنزيه اللَّه تعالى عنه.


الصفحة التالية
Icon