مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٦٩
أولها : قوله : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وذلك احد الدلائل على وجود اللّه وعلى قدرته وحكمته. وثانيها : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وهو ايضا من الدلائل الدالة على الوجود والقدرة والعلم. وثالثها : قوله : أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وهو ايضا اشارة إلى كمال قدرته وحكمته.
إذا ثبت هذا فنقول : أول الآية اشارة ذكر ما يدل على الوجود والقدرة والعلم وآخرها يدل ايضا على هذا المطلوب وإذا كان الأمر كذلك فقوله : ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وجب ان يكون ايضا دليلا على كمال القدرة والعلم لأنه لو لم يدل عليه بل كان المراد كونه مستقرا على العرش كان ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده فان كونه تعالى مستقرا على العرش لا يمكن جعله دليلا على كماله في القدرة والحكمة وليس ايضا من صفات المدح الثناء لأنه تعالى قادر على ان يجلس / جميع اعداد البق والبعوض على العرش وعلى ما فوق العرش فثبت ان كونه جالسا على العرش ليس من دلائل اثبات الصفات والذات ولا من صفات المدح الثناء فلو كان المراد من قوله : ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ كونه جالسا على العرش لكان ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده وهذا يوجب نهاية الركاكة فثبت ان المراد منه ليس ذلك بل المراد منه كمال قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصبر هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المطولب. وثامنها : ان السماء عبارة عن كل ما ارتفع وسما وعلا والدليل عليه انه تعالى سمى السحاب سماء حيث قال : وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال : ١١] وإذا كان الأمر كذلك فكل ما له ارتفاع وعلو وسمو كان سماء فلو كان اله العالم موجودا فوق العرش لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش. فثبت انه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء واللّه تعالى حكم بكونه خالقا لكل السموات في آيات كثيرة هذه الآية وهو قوله : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فلو كان فوق العرش سماء لسكان اهل العرش لكان خالقا لنفسه وذلك محال.
وإذا ثبت هذا فنقول : قوله : الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ آية محكمة دالة على ان قوله : ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ من المتشابهات التي يجب تأويلها وهذه نكتة لطيفة ونظير هذا انه تعالى قال في أول سورة الانعام : هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ [الانعام : ٣] ثم قال بعده بقليل : قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الانعام : ١٤] فدلت هذه الآية المتأخرة على ان كل ما في السموات فهو ملك اللّه فلو كان اللّه في السموات لزم كونه ملكا لنفسه وذلك مال فكهذا هاهنا فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية انه لا يمكن حمل قوله :
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان : الاول : ان نقطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تاويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى اللّه وهو الذي قررناه في تفسير قوله : وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران : ٧] وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه.
والقول الثاني : ان نخوض في تأويله على التفصيل وفيه قولان ملخصان : الاول : ما ذكره القفال رحمة اللّه عليه فقال : الْعَرْشِ في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك يقال : ثل عرشه اى انتفض ملكه وفسد. وإذا استقام له ملكه واطراد امره وحكمه قالوا : استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه هذا ما قاله القفال. وأقول : ان الذي قاله حق وصدق وصواب ونظيره قولهم


الصفحة التالية
Icon