مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٧٣
فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [غافر : ٦٤] لا يليق الا بكبريائه وكمال فضله ونهاية جوده ورحمته.
المسألة الثالثة : كون الشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره سبحانه يحتمل وجوها : أحدها : انا قد دللنا في هذا الكتاب العالي الدرجة ان الأجسام متماثلة ومتى كان كذلك، كان اختصاص جسم الشمس بذلك النور المخصوص والضوء الباهر والتسخير الشديد والتأثير القاهر والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلى، لا بد وان يكون لأجل ان الفاعل الحكيم والمقدر العليم خص ذلك الجسم بهذه الصفات وهذه الأحوال، فجسم كل واحد من الكواكب والنيرات كالمسخر في قبول تلك القوى والخواص، عن قدرة المدبر الحكيم، الرحيم العليم. وثانيها : ان يقال / ان لكل واحد من اجرام الشمس والقمر والكواكب، سيرا خاصا بطيئا من المغرب إلى المشرق وسيرا آخر سريعا بسبب حركة الفلك الأعظم، فالحق سبحانه خص جرم الفلك الأعظم بقوة سارية في اجرام سائر الأفلاك باعتبارها صارت مستولية عليها، قادرة على تحريكها على سبيل القهر من المشرق إلى المغرب فاجرام الأفلاك والكواكب صارت كالمسخرة لهذا القهر والقسر ولفظ الآية مشعر بذلك لأنه لما ذكر العرش بقوله : ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ رتب عليه حكمين : أحدهما : قوله : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ تنبيها على ان حدوث الليل والنهار انما يحصل بحركة العرش. والثاني : قوله : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ تنبيها على ان الفلك الأعظم الذي هو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب وانه تعالى أودع في جرم العرش قوة قاهرة باعتبارها قوى على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها، فهذه ابحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند اللّه. وثالثها : ان أجسام العالم على ثلاثة اقسام، منها ما هي متحركة إلى الوسط وهي الثقال.
ومنها ما هي متحركة عن الوسط، وهي الخفاف، ومنها ما هي متحركة عن الوسط، وهي الاجرام الفلكية الكوكبية، فإنها مستديرة حول الوسط فكون الأفلاك والكواكب مستديرة حول مركز الأرض لا عنه ولا اليه، لا يكون الا بتسخير اللّه وتدبيره، حيث خص كل واحد من هذه الأجسام بخاصة معينة وصفة معينة وقوة مخصوصة فلهذا السبب قال : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ورابعها : ان الثوابت تتحرك في كل ستة وثلاثين ألف سنة دورة واحدة، فهذه الحركة تكون في غاية البطء. ثم هاهنا دقيقة اخرى وهي ان كل كوكب من الكواكب الثابتة، كان اقرب إلى المنطقة كانت حركته اسرع، وكل ما كان اقرب إلى القطب كانت حركته ابطا، فالكواكب التي تكون في غاية القرب من القطب مثل كوكب الجدي وهو الذي تقول العوام انه هو القطب، يدور في دائرة في غاية الصغر، وهو انما يتمم تلك الدائرة الصغيرة جدا في مدة ستة وثلاثين ألف سنة. فإذا تأملت علمت ان تلك الحركة بلغت في البطء إلى حيث لا توجد حركة في العالم تشاركها في البطء، فذلك الكوكب اختص بابطا حركات هذا العالم وجرم الفلك الأعظم اختص بأسرع حركات العالم، وفيما بين هاتين الدرجتين درجات لا نهاية لها في البطء والسرعة، وكل واحد من الكواكب والدوائر والحوامل والممثلات يختص بنوع من تلك الحركات، وايضا فلكل واحد من تلك الكواكب مدارات مخصوصة، فاسرعها هو المنطقة وكل ما كان اقرب اليه فهو اسرع حركة مما هو ابعد منه، ثم انه سبحانه رتب مجموع هذه الحركات على اختلاف درجاتها وتفاوت مراتبها سببا لحصول المصالح في هذا العالم. كما قال في أول سورة / البقرة : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة : ٢٩] اي سواهن على وفق مصالح هذا العالم، وهو بكل شيء عليم، اي هو عالم بجميع المعلومات


الصفحة التالية
Icon