مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٧٤
فيعلم انه كيف ينبغي ترتيبها وتسويتها حتى تحصل مصالح هذا العالم، فهذا ايضا نوع عجيب في تسخير اللّه تعالى هذه الأفلاك والكواكب، فتكون داخلة تحت قوله : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال انك أكثرت في تفسير كتاب اللّه من عليم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد! فيقال لهذا المسكين : انك لو تأملت في كتاب اللّه حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره من وجوه : الاول : ان اللّه تعالى ملا كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية احوال الضياء والظلام، واحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في اكثر السور وكررها وأعادها مرة
بعد اخرى، فلو لم يكن البحث عنها، والتأمل في أحوالها جائزا لما ملا اللّه كتابه منها. والثاني : انه تعالى قال : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق : ٦] فهو تعالى حث على التأمل في انه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة الا التأمل في انه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها. والثالث : انه تعالى قال : لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر : ٥٧] فبين ان عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في اجرام السموات اكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس، ثم انه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات :
٢١] فما كان أعلى شأنا وأعظم برهانا منها اولى بان يجب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع اللّه فيها من العجائب والغرائب. والرابع : انه تعالى مدح المتفكرين في خلق السموات والأرض فقال : وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران : ١٩١] ولو كان ذلك ممنوعا منه لما فعل. والخامس :
ان من صنف كتابا شريفا مشتملا على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق، فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان : منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير ان يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين، ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين، واعتقاد الطائفة الاولى وان بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال الا ان اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى واوفى. وايضا فكل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه اكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل.
إذا ثبت هذا فنقول : من الناس من اعتقد ان جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث، / فحصل له بهذا الطريق اثبات الصانع تعالى وصار من زمرة المستدلين، ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث عن احوال العالم العلوي والعالم السفلى على سبيل التفصيل فيظهر له في كل نوع من انواع هذا العالم حكمة بالغة واسرار عجيبة، فيصير ذلك جاريا مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله، فلا يزال ينتقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر، ومن دليل إلى دليل آخر، فلكثرة الدلائل وتواليها اثر عظيم في تقوية اليقين وازالة الشبهات. فإذا كان الأمر كذلك ظهر انه تعالى انما انزل هذا الكتاب لهذه الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة، ونسأل اللّه العون والعصمة.
المسألة الرابعة : الأمر المذكور في قوله : مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ قد فسرناه بما سبق ذكره، واما المفسرون فلهم فيه وجوه : أحدها : المراد نفاذ ارادته لان الغرض من هذه الآية تبيين عظمته وقدرته، وليس المراد من هذا الأمر الكلام، ونظيره في قوله تعالى : فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت : ١١]


الصفحة التالية
Icon