مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٨٤
إذا ثبت هذا فنقول : إن مدلول هذه الآية من هذا الوجه متأكد بعموم قوله : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة : ١] وبعموم قوله تعالى : لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ [الصف : ٢، ٣] وتحت قوله : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون : ٨ المعارج : ٣٢] وتحت سائر العمومات الواردة في وجوب الوفاء بالعهود والعقود.
إذا ثبت هذا فنقول : إن وجدنا نصا دالا على أن بعض العقود التي وقع التراضي به من الجانبين غير صحيح، قضينا فيه بالبطلان تقديما للخاص على العام، وإلا حكمنا فيه بالصحة رعاية لمدلول هذه العمومات.
وبهذا الطريق البين الواضح ثبن أن القرآن واف ببيان جميع أحكام الشريعة من أولها إلى آخرها.
ثم قال تعالى : وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً وفيه سؤالات :
السؤال الأول : قال في أول الآية : ادْعُوا رَبَّكُمْ ثم قال : وَلا تُفْسِدُوا ثم قال : وَادْعُوهُ وهذا يقتضى عطف الشيء على نفسه وهو باطل.
والجواب : أن الذين قالوا في تفسير قوله : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً أى اعبدوه إنما قالوا ذلك خوفا من هذا الإشكال.
فإن قلنا بهذا التفسير فقد زال السؤال، وإن قلنا المراد من قوله : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً هو الدعاء كان الجواب أن قوله : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً يدل على أن الدعاء لا بد وأن يكون مقرونا بالتضرع وبالإخفاء، ثم بين في قوله : وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أن فائدة الدعاء هو أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء ومنفعته.
السؤال الثاني : إن المتكلمين اتفقوا على أن من عبد ودعا لأجل الخوف من العقاب والطمع في الثواب لم تصح عبادته، وذلك لأن المتكلمين فريقان : منهم من قال التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية، فكونه إلها لنا وكوننا عبيدا له يقتضى أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء، فلا يعتبر منه كونه في نفسه صلاحا وحسنا، وهذا قول أهل السنة. ومنهم من قال : التكاليف إنما وردت لكونها في أنفسها مصالح وهذا هو قول المعتزلة.
إذا عرفت هذا فنقول : أما على القول الأول : فوجه وجوب بعض الأعمال، وحرمة بعضها مجرد أمر اللّه بما أوجبه ونهيه عما حرمه، فمن أتى بهذه العبادات صحت. أما من أتى بها خوفا من العقاب، أو طمعا في الثواب، وجب أن لا يصح، لأنه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها، وأما على القول الثاني : فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح، فمن أتى بها للخوف من العقاب، أو للطمع في الثواب فلم يأت بها لوجه وجوبها، فوجب أن لا تصح، فثبت أن على كلا المذهبين من أتى بالدعاء وسائر العبادات لأجل الخوف من العقاب، والطمع في الثواب، وجب أن لا يصح.
إذا ثبت هذا فنقول : ظاهر قوله : وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً يقتضى أنه تعالى أمر المكلف بأن يأتى بالدعاء لهذا الغرض، وقد ثبت بالدليل فساده، فكيف طريق التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين ما ذكرناه من المعقول.
والجواب : ليس المراد من الآية ما ظننتم، بل المراد : وادعوه مع الخوف من وقوع التقصير، في بعض


الصفحة التالية
Icon