مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٩٧
وكلا الوجهين جاء في التنزيل فالتخفيف قوله : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [هود : ٥٧] والتشديد فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة : ٦٧].
المسألة الثانية : الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو ان تبليغ الرسالة معناه : ان يعرفهم انواع تكاليف اللّه واقسام أوامره ونواهيه واما النصيحة : فهو انه يرغبه في الطاعة ويحذره عن المعصية ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه وقوله : رِسالاتِ رَبِّي يدل على انه تعالى حمله أنواعا كثيرة من الرسالة وهي اقسام التكاليف من الأوامر والنواهي وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا وقوله : وَأَنْصَحُ لَكُمْ قال الفراء : لا تكاد العرب تقول : نصحتك انما تقول :
نصحت لك ويجوز ايضا نصحتك. قال النابغة :
نصحت بنى عوف فلم يتقبلوا رسولي ولم تنجح لديهم رسائلى
وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى : انى ابلغ إليكم تكاليف اللّه ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح وأدعوكم إلى ما دعاني وأحب إليكم ما أحبه لنفسي.
ثم قال : وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وفيه وجوه : الاول : واعلم انكم ان عصيتم امره عاقبكم بالطوفان. الثاني : واعلم انه يعاقبكم في الآخرة عقابا شديدا خارجا عما تتصوره عقولكم. الثالث : يجوز ان يكون المراد : واعلم من توحيد اللّه وصفات جلاله ما لا تعلمون ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام : حمل القوم على ان يرجعوا اليه في طلب تلك العلوم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٣ إلى ٦٤]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
اعلم ان قوله : أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا يدل على ان مراد القوم من قولهم لنوح عليه السلام : إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف : ٦٠] هو انهم نسبوه في ادعاء النبوة إلى الضلال وذلك من وجوه : أحدها : انهم استبعدوا ان يكون للّه رسول إلى خلقه لأجل انهم اعتقدوا ان المقصود من الإرسال هو التكليف والتكليف لا منفعة فيه للمعبود لكونه متعاليا عن النفع والضرر ولا منفعة فيه للعابد لأنه في الحال يوجب المضرة العظيمة وكل ما يرجى فيه من الثواب ودفع العقاب فاللّه قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف فيكون التكليف عبثا واللّه متعال عن العبث وإذا بطل التكليف بطل القول بالنبوة. وثانيها : انهم وان جوزوا التكليف الا انهم قالوا : ما علم حسنه بالعقل فعلناه وما علم قبحه تركناه وما لا نعلم فيه لا حسنه ولا قبحه فان كنا مضطرين اليه فعلناه لعلمنا انه متعال عن ان يكلف عبده ما لا طاقة له به وان لم نكن مضطرين اليه تركناه للحذر عن خطر العقاب ولما كان رسول العقل كافيا فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر. وثالثها : ان بتقدير : انه لا بد من الرسول فان إرسال الملائكة اولى لان مهابتهم أشد وطهاراتهم أكمل واستغناءهم عن المأكول والمشروب اظهر وبعدهم عن الكذب والباطل أعظم. ورابعها : ان بتقدير : ان يبعث رسولا من البشر فلعل القوم اعتقدوا ان من كان فقيرا ولم يكن له تبع ورئاسة فانه لا يليق به