مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٩٨
منصب الرسالة ولعلهم اعتقدوا ان الذي ظن نوح عليه السلام انه من باب الوحى فهو من جنس الجنون والعته وتخييلات الشيطان فهذا هو الإشارة إلى مجامع الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين فلهذه الأسباب حكموا على نوح بالضلالة ثم ان نوحا عليه السلام أزال تعجبهم وقال : انه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية ان يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ولا يجوز ان يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة لان ذلك ينتهى إلى حد الإلجاء وهو ينافي التكليف ولا يجوز ان يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة لما ذكرناه في سورة الانعام في تفسير قوله تعالى : وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الانعام : ٩] فبقى ان يكون إيصال تلك التكاليف إلى الخلق بواسطة انسان وذلك الإنسان انما يبلغهم تلك التكاليف لأجل ان ينذرهم ويحذرهم ومتى انذرهم اتقوا مخالفة تكليف اللّه ومتى اتقوا مخالفة تكليف اللّه استوجبوا رحمة اللّه فهذا هو المراد من قوله : لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية.
اما قوله : أَوَعَجِبْتُمْ فالهمزة للانكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم ان جاءكم؟ اى عجبتم ان جاءكم ذكر. وذكروا في تفسير هذا الذكر وجوها. قال الحسن : انه الوحى الذي جاءهم به. وقال آخرون : المراد بهذا الذكر المعجز ثم ذلك المعجز يحتمل / وجهين : أحدهما : انه تعالى كان قد انزل عليه كتابا وكان ذلك الكتاب معجزا فسماه اللّه تعالى ذكرا كما سمى القرآن بهذا الاسم وجعله معجزة لمحمد (صلى اللّه عليه وسلّم). والثاني : ان ذلك المعجز كان شيئا آخر سوى الكتاب. وقوله : عَلى رَجُلٍ قال الفراء : عَلى هاهنا بمعنى مع كما تقول : جاء بالخبر على وجهه ومع وجهه كلاهما جائز. وقال ابن قتيبة :
اى على لسان رجل منكم كما قال : رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران : ١٩٤] اى على لسان رسلك. وقال آخرون : ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ منزل على رجل وقوله : مِنْكُمْ اى تعرفون نسبه فهو منكم نسبا وذلك لان كونه منهم يزيل التعجب لان المرء بمن هو من جنسه اعرف وبطهارة أحواله اعلم وبما يقتضى السكون اليه ابصر ثم بين تعالى ما لأجله يبعث الرسول فقال : لِيُنْذِرَكُمْ وما لأجله ينذر فقال :
وَلِتَتَّقُوا وما لأجله يتقون فقال : وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وهذا الترتيب في غاية الحسن فان المقصود من البعثة الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة. قال الجبائي والكعبي والقاضي : هذه الآية دالة على انه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم التقوى والفوز بالرحمة وذلك يبطل قول من يقول : انه تعالى أراد من بعضهم الكفر والعناد وخلقهم لأجل العذاب والنار.
وجواب أصحابنا ان نقول : ان لم يتوقف الفعل على الداعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح وان توقف لزم الجبر ومتى لزم ذلك وجب القطع فانه تعالى أراد الكفر من الكافر وذلك يبطل مذهبكم. ثم بين تعالى انهم مع ذلك كذبوه في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من اللّه وأصروا على ذلك التكذيب ثم انه تعالى أنجاه في الفلك وأنجى من كان معه من المؤمنين وأغرق الكفار والمكذبين وبين العلة في ذلك فقال : إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد قال اهل اللغة : يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ [القصص : ٦٦] وقال : قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ


الصفحة التالية
Icon