مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٣٠٠
[الأعراف : ٥٩] وقال في هذه القصة : اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون : ٣٢] والفرق بين الصورتين ان قبل نوح عليه السلام لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعة العظيمة وهي الطوفان العظيم فلا جرم اخبر نوح عن تلك الواقعة فقال : إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ واما واقعة هود عليه السلام فقد كانت مسبوقة بواقعة نوح وكان عند الناس علم بتلك الواقعة قريبا فلا جرم اكتفى هود بقوله : أَفَلا تَتَّقُونَ والمعنى تعرفون ان قوم نوح لما لم يتقوا للّه ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فكان قوله : أَفَلا تَتَّقُونَ اشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا.
والفرق الثالث : قال تعالى في قصة نوح : قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ [الأعراف : ٦٠] وقال في قصة هود :
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ والفرق انه كان في اشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد اسلم وكان يكتم إيمانه فاريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في اشراف قوم نوح مؤمن.
والفرق الرابع : انه تعالى حكى عن قوم نوح انهم قالوا : إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وحكى عن قوم هود انهم قالوا : إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ والفرق بين الصورتين ان نوحا عليه السلام كان يخوف الكفار بالطوفان العام وكان ايضا مشتغلا باعداد السفينة وكان يحتاج إلى ان يتعب نفسه في اعداد السفينة فعند هذا القوم قالوا : إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف : ٦٠] ولم يظهر شيء من العلامات التي تدل على ظهور الماء في تلك المفازة اما هود عليه السلام فما ذكر شيئا / الا انه زيف عبادة الأوثان ونسب من اشتغل بعبادتها إلى السفاهة وقلة العقل فلما ذكر هود هذا الكلام في أسلافهم قابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة ثم قالوا : وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعاء الرسالة واختلفوا في تفسير هذا الظن فقال بعضهم :
المراد منه القطع والجزم وورود الظن بهذا المعنى في القرآن كثير قال تعالى : الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة : ٤٦] وقال الحسن والزجاج : كان تكذيبهم إياه على الظن لا على اليقين فكفروا به ظانين لا متيقنين وهذا يدل على ان حصول الشك والتجويز في اصول الدين يوجب الكفر.
والفرق الخامس : بين القصتين ان نوحا عليه السلام قال : أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف : ٦٢] واما هود عليه السلام فقال : أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ فنوح عليه السلام قال : أَنْصَحُ لَكُمْ وهو صيغة الفعل وهود عليه السلام قال : وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ وهو صيغة اسم الفاعل ونوح عليه السلام قال : وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وهود عليه السلام لم يقل ذلك ولكنه زاد فيه كونه أمينا والفرق بين الصورتين ان الشيخ عبد القاهر النحوي ذكر في كتاب دلائل الاعجاز ان صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة واما صيغة اسم الفاعل فإنها دالة على الثبات والاستمرار على ذلك الفعل.
وإذا ثبت هذا فنقول : ان القوم كانوا يبالغون في السفاهة على نوح عليه السلام ثم انه في اليوم الثاني كان يعود إليهم ويدعوهم إلى اللّه وقد ذكر اللّه تعالى عنه ذلك فقال : رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح : ٥] فلما كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال : وَأَنْصَحُ لَكُمْ واما هود عليه السلام فقوله : وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ يدل على كونه مثبتا في تلك النصيحة مستقرا فيها. اما ليس فيها اعلام بانه سيعود إلى ذكرها حالا فحالا ويوما فيوما واما الفرق الاخر في هذه الآية وهو ان نوحا عليه السلام قال : وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وهودا وصف نفسه بكونه


الصفحة التالية
Icon