مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٣٠١
أمينا. فالفرق ان نوحا عليه السلام كان أعلى شأنا وأعظم منصبا في النبوة من هود فلم يبعد ان يقال : ان نوحا كان يعلم من اسرار حكم اللّه وحكمته ما لم يصل اليه هود فلهذا السبب امسك هود لسانه عن ذكر تلك الكلمة واقتصر على ان وصف نفسه بكونه أمينا : ومقصود منه امور : أحدها : الرد عليهم في قولهم : وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ وثانيها : ان مدار امر الرسالة والتبليغ عن اللّه على الامانة فوصف نفسه بكونه أمينا تقريرا للرسالة والنبوة. وثالثها : كأنه قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم ما وجدتم منى غدرا ولا مكرا ولا كذبا واعترفتم لي بكونى أمينا فكيف نسبتمونى الآن إلى الكذب؟
واعلم ان الأمين هو الثقة وهو فعيل من أمن يامن أمنا فهو آمن وأمين بمعنى واحد.
واعلم ان القوم لما قالوا له : إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ فهو لم يقابل سفاهتهم بالسفاهة بل قابلها بالحلم والإغضاء ولم يزد على قوله : لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وذلك يدل على ان ترك الانتقام اولى كما قال : وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان : ٧٢].
اما قوله : وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فهو مدح للنفس بأعظم صفات المدح. وانما فعل ذلك لأنه كان يجب عليه اعلام القوم بذلك وذلك يدل على ان مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز.
والفرق السادس : بين القصتين ان نوحا عليه السلام قال : أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف : ٦٣] وفي قصة هود أعاد هذا الكلام بعينه الا انه حذف منه قوله : وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ والسبب فيه انه لما ظهر في القصة الاولى ان فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة لم يكن إلى إعادته في هذه القصة حاجة واما بعد هذه الكلمة فكله من خواص قصة هود عليه السلام وهو قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف : ٦٩].
[في قوله تعالى أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخر الآية] واعلم ان الكلام في الخلفاء والخلائف والخليفة قد مضى في مواضع والمقصود منه ان تذكر النعم العظيمة يوجب الرغبة والمحبة وزوال النفرة والعداوة وقد ذكر هود عليه السلام هاهنا نوعين من الانعام :
الاول : انه تعالى جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح وذلك بان أورثهم ارضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح. والثاني : قوله : وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً وفيه مباحث :
البحث الاول : الخلق في اللغة عبارة عن التقدير فهذا اللفظ انما ينطلق على الشيء الذي له مقدار وجثة وحجمية فكان المراد حصول الزيادة في أجسامهم ومنهم من حمل هذا اللفظ على الزيادة في القوة وذلك لان القوى والقدر متفاوتة فبعضها أعظم وبعضها أضعف.
إذا عرفت هذا فنقول : لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تلك الزيادة فليس في اللفظ البتة ما يدل عليه الا ان العقل يدل على ان تلك الزيادة يجب ان تكون زيادة عظيمة واقعة على خلاف المعتاد والا لم يكن لتخصيصها بالذكر في معرض الانعام فائدة. قال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا وقال آخرون : تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يدا انسان إذا رفعهما ففضلوا على اهل زمانهم بهذا القدر وقال قوم يحتمل ان يكون المراد من قوله : وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة