مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٤٨٠
تعالى لا يفعل بهم ذلك تعظيماً له، وهذا أيضاً عادة اللَّه مع جميع الأنبياء المتقدمين، فإنه لم يعذب أهل قرية إلا بعد أن يخرج رسولهم منها، كما كان في حق هود وصالح ولوط.
فإن قيل : لما كان حضوره فيهم مانعاً من نزول العذاب عليهم، فكيف قال : قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة : ١٤].
قلنا : المراد من الأول عذاب الاستئصال، ومن الثاني : العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة.
والسبب الثاني : قوله : وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي تفسيره وجوه : الأول : وما كان اللَّه معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون، فاللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد بعضهم كما يقال : قتل أهل المحلة رجلًا، وأقدم أهل البلدة الفلانية على الفساد، والمراد بعضهم. الثاني : وما كان اللَّه معذب هؤلاء الكفار، وفي علم اللَّه أنه يكون لهم أولاد يؤمنون باللَّه ويستغفرونه، فوصفوا بصفة أولادهم وذراريهم. الثالث :
قال قتادة والسدي : وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي لو استغفروا لم يعذبوا، فكان المطلوب من ذكر هذا الكلام استدعاء الاستغفار منهم. أي لو اشتغلوا بالاستغفار لما عذبهم اللَّه. ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الاستغفار هاهنا بمعنى الإسلام والمعنى : أنه كان معهم قوم كان في علم اللَّه أن يسلموا. منهم أبو سفيان بن حرب. وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. والحرث بن هشام. وحكيم بن حزام. وعده كثير، والمعنى وما كان اللَّه معذبهم وأنت فيهم مع أن في علم اللَّه أن فيهم من يئول أمره إلى الإيمان. قال أهل المعاني :
دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. قال ابن عباس : كان فيهم أمانان نبي اللَّه / والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة، ثم قال : وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ واعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لا يعذبهم ما دام رسول اللَّه فيهم، وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم فكان المعنى أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم ثم اختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم : لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر، وقيل بل يوم فتح مكة، وقال ابن عباس : هذا العذاب هو عذاب الآخرة، والعذاب الذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا، ثم بين تعالى ما لأجله يعذبهم، فقال : وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وقد ظهرت الأخبار أنهم كيف صدوا عنه عام الحديبية، ونبه على أنهم يصدون لادعائهم أنهم أولياؤه، ثم بين بطلان هذه الدعوى بقوله : وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ الذين يتحرزون عن المنكرات، كالذي كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية، والمقصود بيان أن من كانت هذه حاله لم يكن ولياً للمسجد الحرام، فهم إذن أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا، فقتلهم اللَّه يوم بدر، وأعز الإسلام بذلك على ما تقدم شرحه.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٥]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
اعلم أنه تعالى لما قال في حق الكفار أنهم ما كانوا أولياء البيت الحرام. وقال : إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال : ٣٤] بين بعده ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقربهم وعبادتهم إنما كان بالمكاء والتصدية. قال صاحب «الكشاف» : المكاء فعال بوزن النغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر،


الصفحة التالية
Icon